كان يُنظَر إلى كوريا الشمالية باعتبارها أفقر، وأكثر استبداداً، وأضعف من أن تُحقِّق النجاح في كلٍ من البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الباليسيتة. ومع ذلك، حصلت بيونغ يانغ على قدرات أسلحة نووية متطوِّرة، وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اختبرت صاروخاً باليستياً عابراً للقارات.
وتساءلت صحيفة واشنطن بوست الأميركية: لِمَ نجحت كوريا الشمالية في حين أخفقت بلدانٌ أخرى كالعراق وليبيا؟
هناك 3 عوامل محورية في نجاح كوريا الشمالية. ويستند هذا التحليل إلى نتائج بخصوص برنامج كوريا الشمالية، وردت في مقالٍ نُشِر مؤخراً بصحيفة نيويورك تايمز الأميركية، إلى جانب كتابٍ جديد عن البرنامجين النووين لكلٍ من العراق وليبيا.
قد يبدو أنَّ القادة المستبدين يسعون بتصميمٍ للحصول على أسلحةٍ نووية، لكن لا يفعل كلهم ذلك بإخلاص. فبعد نجاح والده، كيم جونغ-إيل، أواخر 2011، جعل كيم جونغ-أون الوصول للأسلحةً النووية المتطوِّرة ووسائل إطلاقها هدفه الرئيسي. فأعاد توجيه الموارد إلى برنامج الصواريخ، وروَّج للعلم باعتباره رأس أولويات النظام، وربط رويداً رويداً صورته العامة بالعلم والعلماء.
على النقيض من ذلك، أظهر البحث الذي جاء في الكتاب، أنَّ الرئيسين العراقي صدام حسين والليبي معمر القذافي لم يضعا مسألة تطوير أسلحة نووية كأولوية إلا بصورةٍ مُتقلِّبة. فقد غزا صدام الكويت في 1990، في وقتٍ كان البرنامج النووي العراقي فيه قريباً من تحقيق اختراق. ولو لم يغز صدّام الكويت في تلك اللحظة الحرجة، جاذِباً أنظار ومعارضة الولايات المتحدة، لكان من المُرجَّح للغاية أن يحصل العراق على أسلحةٍ نووية بحلول منتصف أو أواخر التسعينيات.
كان نهج القذافي تجاه برنامج الأسلحة النووية متناقضاً على نحوٍ مماثل، الأمر الذي يعكس الانقسامات الطويلة داخل النظام الليبي حول ما إذا كانت الأسلحة النووية تُمثِّل أولوية ضرورية أو مهمة. فطوال عقد التسعينيات، سعى القذافي للحصول على أسلحةٍ نووية في الوقت نفسه الذي تواصَل فيه مع الولايات المتحدة، عارِضاً التخلِّي عن تلك القدرات النووية مقابل تحسين العلاقات الثنائية. وفي نهاية المطاف، تخلَّى عن برنامجه كجزءٍ من اتفاقٍ مع الولايات المتحدة وبريطانيا أواخر 2003. وهو قرارٌ مشؤوم، كما يشير إليه مسؤولو كوريا الشمالية مِرارا؛ لأنَّ الولايات المتحدة والتحالف الذي يقوده حلف شمال الأطلنطي (الناتو) دعما انتفاضة أطاحت بالنظام الليبي في عام 2011.
يُمثِّل قرار كيم جونغ-أون أيضاً خروجاً عن نهج والده بخصوص البرنامج النووي؛ إذ وضع كيم جونغ-إيل البرنامج النووي في حالة تجميدٍ مُوسَّعة في التسعينيات كجزءٍ من إطار عملٍ اتُّفِق عليه بالتفاوض بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
تُعَد استراتيجية الإدارة عاملاً مهماً، كثيراً ما يُهدَر حقه، في نجاح بعض المستبدين وإخفاق البعض الآخر.
يُدير المستبدون -حتى لو كانوا آباء وأبناء- مؤسسات الدولة والعلماء بصورةٍ مختلفة. فقد حكم كيم جونغ-إيل أساساً عن طريق المؤسسات، ولم يبدُ أنَّه يرفع العلماء فوق النخب الأخرى. أمَّا كيم جونغ-أون، فسلك نهجاً أكثر شخصانية، وأخضع المؤسسات الرئيسية لسيطرته عبر حملات تطهيرٍ واسعة. لكنَّه وفَّر الحماية للعلماء من حملات التطهير تلك، وقدَّم لهم امتيازاتٍ حصرية، وضمن ذلك حصص غذائية أفضل وشقق جديدة.
وأفادت التقارير بأنَّ كيم جونغ-أون لم يقتل أحداً من العلماء؛ بل طوَّر سُمعةً بأنَّه متسامح مع إخفاقاتهم، باعتبار ذلك جزءاً من عملية التعلُّم العلمي. ويبدو أنَّه تبنَّى نهج الجدارة في إشراك العلماء بالبرامج العسكرية وفي اختيار جيلٍ جديد من القادة العلميين. وربما ساعدت تلك الجهود في تسريع نجاح برنامج الصواريخ في السنوات الأخيرة.
جعل صدّام أيضاً البرنامج النووي العراقي أكثر اعتماداً على مبدأ الجدارة، وتصدَّى للجهود التي بذلها أعضاء حزب البعث للإطاحة بغير البعثيين من البرنامج. وتمتَّع العلماء النوويون العراقيون بمجموعة من المزايا، وحصلوا على موارد غير محدودة تقريباً رغم القيود التي فُرِضَت على الاقتصاد العراقي.
وعلى النقيض من ذلك، لم يُوفِّر القذافي الحماية للعلماء النوويين بأي وسيلة: فرواتبهم كانت منخفضة، وكانوا مضطرين إلى الخدمة في القوات المسلحة كأي مواطنٍ آخر. وكان على البرنامج النووي الليبي التنافس مع المؤسسات الأخرى، لا سيَّما قطاع النفط، للحصول على أفضل العقول. ولأنَّ القذافي لم يرغب في الاستثمار بالتعليم العالي في العلوم والتكنولوجيا -الذي رأى فيه مصدراً رئيسياً لمعارضة النظام- كان المرشحون المناسبون لدخول البرنامج عددهم قليل. ولا يبدو أنَّ النظام لاحظ، فضلاً عن أن يكترث، أنَّ العلماء النوويين تغيَّبوا عن عملهم فتراتٍ طويلة. لا عجب إذن في أنَّ ذلك البرنامج النووي يراوح مكانه.
طوَّرت كوريا الشمالية القدرة لإنتاج أسلحة نووية وصواريخ محلياً. وقد حظيت البلاد بمساعدةٍ طوال سعيها لذلك، فاستعانت بعلماء أجانب، واشترت وقايضت التكنولوجيا الأساسية اللازمة مع بلدان أخرى وشبكاتٍ تسعى للربح، لكنَّها استفادت من تلك المقايضات أكثر من العراق وليبيا.
لماذا؟ قد يكون أحد الأسباب هو أنَّ الصين حينما قلَّصت دعمها لكوريا الشمالية في الستينيات، طوَّرت بيونغ يانغ أساساً محلياً للطاقة النووية وبرامج الأسلحة. ومنح ذلك علماءها خبراتٍ قيِّمة ومهَّد الطريق أمام نهجٍ أكثر طموحاً فيما يتعلَّق بالأسلحة النووية. وعلى نحوٍ شبيه، قضت كوريا الشمالية وقتها في تطوير المعرفة الفنية (know-how)، والأدوات، والمعدات اللازمة لبرنامج الصواريخ الباليستية الذي تطوَّر بصورةٍ ملحوظة للغاية في 2017.
سلك القذافي النهج المعاكس، فاستعان بمصادر خارجية للحصول على التكنولوجيا الأساسية بدلاً من تطوير تلك القدرات داخلياً. وشعر الليبيون بالخيانة من جانب مُورِّديهم في السوق النووية السوداء، لا سيَّما من عبد القدير خان، الذي باعهم معداتٍ قديمة عانوا من أجل تشغيلها. لكنَّ مشكلتهم الأساسية كانت أنَّ عدم كفاية مواردهم الداخلية.
عندما أمر صدام حسين علمائه بالبدء في برنامج الأسلحة النووية بعد هجومٍ إسرائيلي على مفاعلٍ نووي في عام 1981، أوعز إليهم بتبنِّي التكنولوجيا التي يمكنهم إتقانها وتجنُّب السعي للحصول على مساعدةٍ خارجية، التي كان من شأنها إثارة انتباه العالم الخارجي. وقد تبنَّى العلماء تكنولوجيا قديمة لم تكن فعَّالة بطرقٍ شتى، لكن كان بإمكان العلماء العراقيين إتقانها والتحكم فيها بأنفسهم. وبعد عدة سنوات من التجربة والخطأ، بدأ العراقيون في إحراز تقدُّم. وحين بحث صهر صدام حسين عن المساعدة خارج البلاد، على غير رغبة صدام حسين، جعلت قدرات البرنامج العراقي إيَّاه في وضعٍ جيد للاستفادة من المساعدة. لكنَّ غزو الكويت أوقف الجهود قبل تمامها.
ربما يتعين على البلدان التي تضطر للاعتماد على نفسها البدء بتكنولوجيا دو المستوى الأمثل، لكن على المدى الطويل، ستكون أكثر استعداداً للنجاح من البلدان التي تستسهل وتشتري التكنولوجيا النووية الجاهزة.
وفي حين تواجه الأنظمة المستبدة الساعية للحصول على الأسلحة النووية عقباتٍ جدية، لاسيَّما إن كان لديهم مؤسسات دولة ضعيفة، يختار القادة استراتيجياتٍ مختلفة لتجاوز تلك التحديات. وكما توضِّح الحالات الثلاث، تساعد تلك الخيارات على تفسير سبب نجاح كوريا الشمالية في حين أخفقت ليبيا والعراق.