ـ غزيون يستحضرون الذكرى السنوية الأولى للمجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في 31 أكتوبر 2023 وخلفت 400 قتيل فلسطيني شهود على المجزرة للأناضول: ـ جثامين لأقاربنا تبخرت بعدما شاهدناها تحت الركام ولم نستطع فعل أي شيء ـ المشهد بالمستشفى الإندونيسي بعد المجزرة كان مروعا حيث تفوح رائحة الموت
ضمن حرب الإبادة المتواصلة شمالي قطاع غزة، يستحضر الفلسطينيون الذكرى السنوية الأولى للمجزرة المروعة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق حي سكني كامل في مخيم جباليا، فيما يعرف بـ "مجزرة جباليا الأولى".
وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كان أهالي "بلوك 6" وسط مخيم جباليا شمال قطاع غزة على موعد مع مجزرة مروعة، حيث ألقت طائرات إسرائيلية سبعة أطنان من القنابل المتفجرة، ما تسبب في إبادة حي سكني كامل يقطنه آلاف السكان والنازحين الفلسطينيين.
وخلفت المجزرة أكثر من 400 قتيل ومئات الجرحى، بالإضافة إلى عشرات المفقودين الذين لا تزال جثامينهم تحت الأنقاض أو تبخرت بفعل القصف الشديد، وفق بيانات رسمية صدرت وقتها عن وزارتي الصحة والداخلية في غزة.
أسر عديدة شُطبت من السجل المدني، ولم يجد أقاربهم بعد المجزرة ما يدل عليهم، فعشرات الجثامين التي تعود لعوائل: أبو نصر، وأبو القمصان، وحجازي، ومسعود، والبهنساوي، وعكاشة، لم يجد أقاربهم منها ما يواسون به أنفسهم.
وتحل الذكرى السنوية الأولى لتلك المجزرة، فيما بدأ الجيش الإسرائيلي في 5 أكتوبر الجاري، عمليات قصف غير مسبوق لمخيم وبلدة جباليا ومناطق واسعة شمالي القطاع، قبل أن يجتاحها في اليوم التالي بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها في المنطقة".
بينما يقول الفلسطينيون إن إسرائيل تعمل على احتلال شمال غزة وتحويله إلى منطقة عازلة وتهجير المواطنين، تحت حصار مطبق يمنع دخول الغذاء والماء والأدوية وقصف مكثف قتل أكثر من ألف فلسطيني خلال أقل من شهر.
** صدمة لا تنسى
وتقول الفتاة إسراء حجازي التي انتُشلت مصابة من تحت الركام، إنها تستذكر اليوم المأساة الأشد قسوة في حياتها، حين فقدت 11 فرداً من عائلتها بعد انهيار منزلهم والبيوت المجاورة فوق رؤوسهم.
وتوضح حجازي لمراسل الأناضول، أن ذلك اليوم ترك صدمة كبيرة في نفسها لم تتعاف منها بعد، ولا يبدو أنها ستتعافى قريباً، فالمصيبة كبيرة.
وتضيف الشابة العشرينية: "في لحظات معدودة، فقدت أمي وشقيقاتي جميعاً ومعظم أهلي، وبيتنا الدافئ الذي كان يؤوينا".
وتتابع موضحة: "كنتُ وقت المجزرة برفقة والدتي في المطبخ، فبيتنا كان مليئا بالنازحين من أقاربنا، وبناؤه قديم ومهترئ، وهو من طابق واحد وسقفه مصنوع من الصفيح والقرميد".
وتردف أن منزلهم "تحول إلى مقبرة حين تساقطت القنابل الإسرائيلية على حارتنا، وانهارت البيوت المجاورة فوق رؤوسنا، ودُفنا جميعا تحت الركام".
وتؤكد الفتاة المنكوبة أنها عاشت "لحظات مرعبة كأنها من الخيال، فقد تحول المشهد إلى ظلام دامس مع أننا في وضح النهار، وغطّت المنطقة سحب من الدخان".
وتكمل: "بمجرد انقشاع الغمام بدأت معالم الصورة تتكشف، وبالكاد التقطت أنفاسي، ولم أستطع المناداة على أحد من هول الصدمة، ولم تمض لحظات حتى وصل الناس من الحارات المجاورة ليكتشفوا ما حل بنا".
وعن إنقاذها، تقول إسراء: "دقائق معدودة مرت كأنها ساعات طويلة، حتى تمكن الناس من انتشالي من تحت الركام، ورأيت بعضاً من جثث أهلي بين الركام، وبقيت صامتة حتى تم نقلي للمستشفى الإندونيسي".
وتتساءل الشابة الفلسطينية: "ماذا تبقى لي؟ جروح جسدي ستندمل مع الأيام، أما جرح قلبي فلن تمحوه أعوام طويلة".
تلك الفتاة المنكوبة كانت تأمل أن تكون ناشطة إعلامية ومجتمعية، وتساهم في انتشال أسرتها من الفقر المدقع، لكن عاماً من حرب الإبادة الإسرائيلية كان كفيلاً بوأد أحلامها، وقلب حياتها رأساً على عقب، وفق قولها.
وبشأن أفراد عائلتها، تقول إسراء إن "أسرتي تمزقت، فقدت أمي وأخواتي، واعتقل الاحتلال والدي وأخي الكبير في اجتياح جباليا الأول قبل قرابة عام، وها أنا نازحة مجدداً برفقة أقاربي وأخي الأصغر، فقد عاود الاحتلال اجتياح مخيمنا من جديد ويعمل على تفريغه وتهجير كامل سكانه".
** كأنها أهوال القيامة
الفلسطيني رامي التلمس، فقد عددا من أفراد عائلته بينهم ابنه وشقيقه وابن شقيقه، وظل بجوار جثامينهم لعدة أيام، دون أن يتمكن من انتشالهم، بينما أصيب هو وباقي أفراد العائلة.
ويقول للأناضول، إن "مشهد مجزرة جباليا سيظل كابوسا لن يمحى من ذاكرتي، وكأني شهدت جانباً من أهوال يوم القيامة".
وبنبرة الألم والحزن العميق، يروي رامي تفاصيل ذلك اليوم، ويقول: "كنا جالسين في منزلنا حينما تساقطت علينا القنابل الإسرائيلية، فخطفت أرواح عدد من أفراد أسرتي بينهم ابني الأكبر وشقيقي وابنه".
رامي الذي تمكن من الخروج من تحت الركام بكدمات وجروح دامية في رأسه، أوضح أنه ظل بجوار مكان دفن ابنه وأخيه، لعلّه يتمكن من انتشالهم.
ولفت إلى أنه بعد ساعات طويلة من الحفر اليدوي برفقة متطوعين من السكان استطاع العثور على أطراف من جثامين مفقوديه، لكنه لم يفلح في انتشالهم.
ويقول: "نظراً لشح الآليات كنا عاجزين عن انتشالهم، وبقيت عدة أيام جالسا بجوارهم دون أن أستطيع فعل شيء، حتى تمكنا أخيراً من ذلك بشق الأنفس".
ويفصح الرجل الأربعيني، عن حجم القهر والحسرة اللذين يختلجان صدر الأب حينما يفقد ابنه الأكبر، وهو صبي يافع لم يتجاوز 16 عاماً.
ويضيف: "سميته رامز تيمناً بأخي الذي استشهد بقذيفة دبابة إسرائيلية في اجتياح سابق لمخيم جباليا عام 2004، وكنت أرقب نموّه أمام ناظريّ بسرور وفخر كبيرين".
وفيما يتعلق بصفات رامز، يضيف الوالد المكلوم: "واظب رامز الصغير على الرياضة واللياقة وكمال الأجسام، وكنت أرى فيه عمّه الشهيد بكل صفاته الرجولية وحبه للحياة".
وفي جانب آخر من الصورة، كان الشاب محمود أبو نصر يمنّي النفس بأن يعثر على رفات 20 من أفراد عائلته الذين تبخرت جثامينهم.
ويقول محمود للأناضول، إنه كان جالساً في منزله بمشروع بيت لاهيا، حينما سمع بوقوع المجزرة في "حارة السنايدة" حيث يقع بيت جده المكون من طابق واحد.
ويوضح أنه هرع وشقيقه إلى المنطقة ليرى ما لا تطيقه العين أو يستوعبه العقل، بعدما قُلبت الحارة رأساً على عقب، ولم يجد أياً من معالمها، وتاه عن مكان البيت.
ومتحدثا عن حجم الدمار الهائل، يقول: "وأنا أتنقل بين الركام، حدّقت النظر جيداً لعلّي أهتدي إلى مكان بيت جدي، فلم أستطع التمييز، وقد وجدت البيت كأنه تبخّر تماماً، وحدثت مكانه حفرة كبيرة يتجاوز قطرها 10 أمتار".
ويتابع: "بحثت فلم أعثر على أفراد عائلتي، وقررت الذهاب إلى المستشفى الإندونيسي، وهناك رأيت الجزء الآخر من المأساة، فعشرات الجثث ملقاة عند ثلاجة الموتى وأمام بوابات المستشفى".
ومحاولا تقريب الصورة، يقول محمود: "رائحة الموت كانت منتشرة في كل مكان، ورأيت في عيون الناس الحيرة الحسرة والصدمة، وكأن زلزالاً قد أصاب المنطقة برمتها".
ويشير محمود إلى ساعات طويلة من البحث حتى حل المساء دون جدوى، ومع ذلك فقد عاود البحث صباحاً، واستمر على هذا الحال أياما.
وختم بقوله: "ما زالت الحسرة والألم يعتصران قلبي، فكنت أود فقط أن أعثر على جثامين جدي وعمي وعماتي وأبنائهم لأودعهم، وأدفنهم، ولكن قنابل الحقد الإسرائيلية حالت بيني وبين ذلك".
ومنذ 7 أكتوبر 2023، تشن إسرائيل بدعم أمريكي مطلق حرب "إبادة جماعية" على غزة، أسفرت عن أكثر من 144 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.