انطلقت عملية "ردع العدوان" التي شنتها المعارضة السورية في ريف حلب، وتوسعت بسرعة هائلة لتشمل مدن سوريا تباعًا، بدءًا من حلب، ثم تل رفعت، وإدلب، وحماة، وحمص، ودير الزور، ودرعا، وصولًا إلى مشارف دمشق. وقد كشفت هذه العملية بجلاء عن هشاشة النظام واعتماده الكلي على الدعم الروسي والإيراني، حيث تبين افتقاره لأي قاعدة شعبية أو قدرة على مواجهة ثورة شعبه.
وأمام هذا الزحف السريع للمعارضة والانهيار المتسارع للنظام، سرعان ما برزت نظريات المؤامرة المعتادة، والتي تروّج لفكرة وجود زر سحري تم الضغط عليه في مكان ما لتفعيل هذه الأحداث. فظهرت ادعاءات بأن الولايات المتحدة وإسرائيل هما من يقفان وراء هذه العمليات، وكأن هذا الانتصار الكبير لا يمكن أن يتحقق دون إذنهما أو توجيههما أو دعمهما. ولا حاجة للتأكيد على أن جميع هذه الادعاءات مجرد خيال واسع لا تستند إلى أي دليل ملموس.
ولو تأمل المرء قليلاً واستخدم عقله لوجد أن أقوى الداعمين لبقاء نظام الأسد حتى الآن هو الولايات المتحدة وإسرائيل. فقد شهدنا جميعًا كيف أن الولايات المتحدة، التي تزعم أنها جاءت إلى سوريا لإسقاط النظام، الملطخة يداه بدماء الأبرياء والمتهم بجرائم ضد الإنسانية، غيرت مسارها فجأة، وأطلقت سيناريو محاربة تنظيم داعش الذي أوجدته بنفسها، ومن خلال هذا السيناريو، رسّخت الولايات المتحدة وجودها في سوريا وزوّدت تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي بالسلاح بذريعة محاربة داعش، وبذلك قدمت دعمًا الأسد دعماً لا يقدّر بثمن. أليس تسليم قوات الأسد للمناطق التي انسحبت منها إلى تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" دليلاً واضحاً على عدم وجود أي فرق بينهما؟
لم يحدث أي تغيّر في سياسات الأسد أو مواقفه يدفع الولايات المتحدة للتخلي عنه، أم أن هناك شيئاً حدث ولم نلاحظ؟ وأما بالنسبة لإسرائيل، فقد كان الأسد دائماً ديكتاتوراً محبوباً لديهم وإن كانوا يضربونه بين الحين والآخر. فهو يقتل من المسلمين أكثر مما يستطيعون هم قتله.
عندما اندلعت ثورة الشعب السوري، كان سقوط نظام الأسد وشيكاً للغاية. غير أن التدخلات الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران وحزب الله ومؤامرة تنظيم داعش (التي كانت بالفعل مؤامرة حقيقية) بالإضافة إلى القصف الروسي، قلبت الموازين بسرعة. فاستهدفت هذه القوى المدنيين بشكل مباشر، ولجأت إلى مجازر جماعية ووسائل إبادة مروعة لإخماد الثورة وقمعها.
أما اليوم، فيبدو أن المعارضة السورية قد استخلصت دروساً هامة من أخطائها السابقة، حيث تظهر الآن تنسيقاً داخلياً متماسكاً وحركة منظمة بوضوح، مما يعكس استعدادها الكبير لهذه العملية. لم يقتصر الاستعداد على الجانب العسكري فحسب، بل يتجلى بشكل أكبر في الرسائل التي وجهتها للشعب في المناطق المحررة، والتي تؤكد من خلالها أنها أبناء سوريا الحقيقيون، وأن هدفها الوحيد هو تحرير البلاد مع الشعب السوري من طغيان هذا النظام الإجرامي.
ويبدو ذلك جلياً في الاستقبال الحماسي الذي يحظى به الثوار من قبل السكان المحليين في المناطق المحررة، حيث تعكس مشاهد الخلاص من قيد الاستبداد شوقاً طويلاً للحرية التي طال انتظارها. وتعد مشاهد إطلاق سراح المئات ممن كانوا معتقلين في سجون حماة منذ عام 1982 دليلاً قاطعاً على طبيعة هذا التحرك العضوي ومدى أصالته.
بعد دخولهم إلى حلب، ألقى أحد قادة المجموعات التي قادت العملية، أحمد الدالاتي، خطاباً بعد صلاة الظهر أمام الحضور، يظهر فيه بجلاء مدى أصالة ووعي هذه المعارضة. فلم يكن في خطابه أي أثر للغرور، بل إن السلاح الذي يحمله والانتصار الذي حققه لم يُفضيا إلى أي تصرف متعجرف أو متهور. على العكس من ذلك، بدأ خطابه بتواضع كبير شاكراً الله على جمعهم بشعبهم. فتحدث عن الظلم والقمع الذي مارسه الأسد عليهم طوال السنوات الماضية، وكيف وصلت الأحداث إلى هذه المرحلة. ثم لخص قائلاً:
"لقد نهب بشار الأسد وعائلته مواردنا وخيرات بلادنا ليبقوا في السلطة، وهم من الطائفة العلوية لكن المشكلة ليست في الطائفة العلوية بحد ذاتها، المشكلة أنه استعصم فيها لكي يهيننا ويستعبدنا نحن أهل السنة في سوريا. لقد استباحنا منذ أربعين سنة هو وأبوه، وأنشؤوا نظاماً استبداديا قمعيا وأمنياً منعونا فيه من رفع رؤوسنا، عليك فقط أن تكون عبداً في حظيرتهم ولهذا السبب ثرنا عليهم، ووقفنا في وجه ذا النظام."
"وبفضل الله عز وجل ومنه علينا، نحن اليوم في حلب، حلب العراقة وحلب الأصالة وحلب الحضارة وحلب التاريخ وحلب الصناعة وحلب درة الشام، فالفتح لا يكون بفتح الطرقات أو الأحجار بل بالشعب الفاتح، حلب بأهلها وأناسها، أنتم منا وفينا، ونحن منكم وفيكم، ونحن أبناؤكم البلد بلدكم، والأهل أهلكم."
"وكما قال شيخنا تعليمات القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية صارمة وواضحة، يمنع التعرض لأي أحد، أو التعدي على ممتلكاته، مهما كانت طائفته، وليس المسلمين فقط، سواء المسيحيين أو الأرمنين أو أي طائفة أخرى في حلب، فهم أهل سوريا، وهم أهلنا وأُناسنا، دماؤهم معصومة وأموالهم معصومة وممتلكاتهم معصومة ولا يمكن لأحد أن يتعرض لهم. نحن أصحاب دعوة وأصحاب رسالة، لسنا مرتزقة ولا مجرمين ولا متعطشين للدماء لا قدر الله، ولا للمناصب أو الجاه أبدا."
"هناك مسؤولية تقع على عاتقنا جميعا وهي أن نبني سوريا الحرة، سوريا لجميع السوريين. السوريون اليوم مشردون في أصقاع الأرض، أكثر من 12 مليون سوري شُردوا وهُجِّروا."
" نحن أيها الإخوة نضحي بدمائنا في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل تحرير بلدنا وتحريركم، وليس طمعاً في أملاككم وأرزاقكم وبلادكم ولا بأهلكم، أمتنا أمة عظيمة وديننا دين عظيم صاحب رسالة كبيرة وأرسل الله تعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بآخر الرسالات رحمة لكل العالمين للمسلمين وغير مسلمين. العالم اليوم يعيش حالة من الفوضى وحالة من التغول على مستوى الطغيان والاستبداد، والمسلمون مضطهدون في جميع أصقاع الأرض."
"أنتم بأمان وأهلكم آمنون، وجيرانكم آمنون، وأولادكم آمنون، ونحن إخوانكم إن شاء الله عز وجل، لن نخذلكم، ولن نظلمكم حفظكم الله وبارك فيكم وتقبل منا ومنكم إن شاء الله."
فبالله عليكم هل يحتاج المرء للبحث عن مكان آخر لرؤية القوة الكامنة وراء الثورة؟ هل يمكن أن تكون الولايات المتحدة أو إسرائيل على صلة من قريب أو بعيد بهذه القيم النبيلة والإنسانية والوعي، وهذا النهج من الرحمة والشفقة؟ هل تدعم الولايات المتحدة، التي لم تقدم للمسلمين سوى الدماء والاستبداد، مثل هذا النهج؟ العقل والمنطق السليم برفض ذلك.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة