كانت الخطبة التي أُلقيت في جميع مساجد القاهرة يوم الجمعة 17 سبتمبر 1171 باسم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله إشارة إلى نهاية عصر في تاريخ مصر والإسلام. فقد انتهى عهد الدولة الفاطمية الشيعية وحل محلها الدولة الأيوبية السنية الشافعية. وعند قراءة هذا الفصل التاريخي من خلال أعمار الأبطال الرئيسيين، سنجد تفاصيل مثيرة للاهتمام: فصلاح الدين كان في الثالثة والثلاثين من عمره، وكان آخر خلفاء الفاطميين العاضد لدين الله في العشرين من عمره، والخليفة العباسي المستضيء الذي أُلقيت الخطبة باسمه كان في التاسعة والعشرين.
كان هدف صلاح الدين من الإطاحة بالدولة الفاطمية والسيطرة على مصر تمهيد الطريق لفتح القدس، التي كانت تحت الاحتلال الصليبي. فقد أدرك من خلال تجربته أن استقرار الأوضاع في مصر شرط أساسي لتحرير فلسطين. ففي عام 1099، ترك الفاطميون القدس للصليبيين، ومنذ ذلك الحين استمروا في التعاون مع الصليبيين، وكلما أراد صلاح الدين يريد تحرير المسجد الأقصى، كان يواجه دائمًا حقيقة أنه يجب عليه أولاً تحرير مصر.
وبعد أن تمكن صلاح الدين من إرساء النظام السياسي في القاهرة وفرض هيمنته على النخب الفاطمية، بدأ يتعامل مع ملف الأزهر بشكل مستقل.
وبعد الانتهاء من بنائه افتتح جامع الأزهر للصلاة يوم الجمعة في 22 يونيو 972، وأطلق عليه اسم "الأزهر" نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وسرعان ما تحول الأزهر إلى مدرسة كبيرة تُجرى فيها دروس مكثفة بهدف نشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، ويُدرّب فيها "الدعاة" الذين يُعتبرون من أبرز مروّجي هذا المذهب. كما كان الأزهر يعد جامعاً بروتوكولياً يصلي فيه الخلفاء الفاطميون صلاة الجمعة والعيدين، وكانوا أحيانًا يصعدون إلى منبره لإلقاء خطبهم.
وأثناء توسعة الأزهر كانت مكتبته مليئة بأبرز مصادر الأدب الإسماعيلي الشيعي. وكان الدعاة الذين يتلقون التعليم المكثف في القاهرة يسافرون إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي، مما جعلهم يلعبون دوراً أساسياً في نشر المذهب الشيعي. وبفضل هذه السياسة النشطة والعدوانية للفاطميين، تجذر المذهب الشيعي في العديد من مناطق العالم الإسلامي، من المغرب إلى داخل الهند.
وكان صلاح الدين الأيوبي على دراية تامة بأهمية الأزهر ووظائفه فأمر بوقف جميع الأنشطة في المسجد والمؤسسات التابعة له. ومنع الصلاة جماعة في الأزهر حتى يتم محو كل آثار المذهب الشيعي. وتمت إزالة كل ما يحمل أسماء الخلفاء الفاطميين من الجامع لوحات وزخارف، وأتلفت الكتب الشيعية واستبدلت بكتب أهل السنة والجماعة. وتم عزل جميع الأساتذة والأئمة والدعاة والشيوخ الشيعيين وتعيين علماء سنة بدلاً منهم. وتم قطع التمويل المخصص للدعاة ووجه إلى إعادة بناء الأزهر مادياً ومعنوياً.
وعندما أعيد افتتاح الأزهر بعد بضع سنوات ليعود إلى خدمة المسلمين، كان يبدو كمؤسسة تعليمية مجددة بالكامل. على مر السنين والعقود التالية، أصبح التعلّم في الأزهر أو التدريس فيه من بين أبرز وأرقى التجارب في العالم الإسلامي. وحتى اليوم -رغم ما مرّ به من ضعف ودمار- لا يزال تأثير الأزهر على أفق المسلمين على حاله تقريبا.
خلال زيارتي المكثفة إلى القاهرة التي استغرقت ثلاثة أيام الأسبوع الماضي، كنت أفكر باستمرار في التحول الذي يشهده الأزهر. لم يكن تفكيري في الأزهر نتيجة لوجودي في القاهرة فحسب، بل كان بسبب التحول الذي بدأ يحدث في سوريا هذه الأيام. وبعض التفاصيل التي أبرزتها منذ بداية كتابتي لابد أنها قد أثارت في ذهن القارئ اليقظ الوضع الراهن في سوريا. فالتاريخ يعيد نفسه بطرق مختلفة.
عندما تتابع تطور المدن الإسلامية في سياق هذه التحولات، تكتشف تفاصيل مذهلة ودروسًا غنية. ولكن إذا توقفت فقط عند الظاهر، على سبيل المثال، إذا اكتفيت بقول "الشارع متسخ" وأنت تعيش في القاهرة الكبيرة وتنقل ذلك للآخرين، فسوف تفقد رؤية الصورة الكبيرة والجمال الخفي وراء هذا الظاهر. وهذا بلا شك خسارة كبيرة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة