هل يمكن لمدينة أن تُستشهد؟ نع يمكن وقد حدث ذلك بالفعل. شهدت مدينة حماة السورية في فبراير من عام 1982 مذبحة مروعة أدت إلى استشهاد المدينة بأكملها، ليس أهلها وحدهم، بل بيوتها وآثارها التاريخية وحتى حيواناتها وأشجارها. فقد قام الجيش السوري بقيادة رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، بقصف المدينة جوا وبرا لمدة 27 يوماً متواصلة، مخلفا وراءه دمارًا شاملاً.
وبعد أن انسحبت قوات النظام التي فرضت حصاراً خانقاً على المدينة وأخفتها تمامًا عن العالم، ظهر حجم المأساة الحقيقية، فقد تجاوز عدد القتلى أربعين ألف قتيل، عذبوا بطرق وحشية، فبُترت أطرافهم وفقعت أعينهم واغتصبت الفتيات ومزقت بطون الحوامل . ودفنت الجثث في مقابر جماعية بواسطة الجرافات. وتحولت المساجد والمدارس التاريخية إلى أنقاض. لقد كانت رسالة تهديد وترويع واضحة من النظام عن طريق مدينة حماة التي تتمتع بشعب متدين ومثقف للغاية إلى جميع السوريين، مفادها أن مصير كل من يعارضه سيكون كمصير حماة. وكتب على أحد الجدران في أنقاض المدينة استهزاء بكلمة التوحيد: "لا إله سوى الوطن، ولا نبي إلا البعث"، وكانت هذه الكتابة استهزاء واضحاً بكلمة التوحيد لدى المسلمين، مما يكشف تمامًا عن طبيعة النظام الاستبدادية.
لم تُبدِ إيران، الحليف الاستراتيجي لنظام البعث في الشرق الأوسط، أي رد فعل تجاه هذه الوحشية الرهيبة التي شهدتها سوريا، بل دعمت النظام وتغاضى عن جرائمه. وبينما كان حافظ الأسد وأعوانه يعملون على القضاء على المعارضة السنية والإسلامية في سوريا، كانوا في الوقت نفسه يمهدون الطريق للتدخل الإيراني في البلاد. وبذلك، ستتمكن طهران من التوغل في سوريا بسهولة تامة وكأنها تدخل بستان ورد خالية من الأشواك، ومن دون أن تتلطخ أيديها بالدماء. وبالفعل، نجحت في ذلك. فقد أدى تصاعد العلاقات في النصف الثاني من الثمانينات إلى ظهور التوسع الشيعي بشكل متزايد على مدى السنوات اللاحقة.
مجزرة حماة لم تكن الأولى أو الأخيرة في سلسلة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام البعث بحق الشعب السوري. إذ حول الأسد وعائلته البلاد إلى مزرعة خاصة بهما واستنزفوا جميع مواردها، وبالرغم من ارتكابهم هذه الجرائم، لم يواجهوا أي عقوبات قانونية، بل ظلوا يجدون إيران خلفهم تدعمهم في كل مرة. وبفضل دعم إيران المستمر لهذا النظام الوحشي، تمكنت من توسيع نفوذها في سوريا ولبنان والعراق، مما أدى إلى نشوء ما يسمى بالهلال الشيعي، الذي تغذى على دماء وأرواح مئات الآلاف من المسلمين.
ولمن يرغب في فهم ما تعنيه الأحداث التي وقعت في سوريا خلال "الربيع العربي" وما تشهده البلاد اليوم من أوضاع، يجب أن يعيد تذكر الصدمات التي عاشها الشعب السوري على مدى عقود. وإذا لم يكن على دراية بذلك، فعليه أن يقرأ ويتعلم. كل شيء يحدث أمام أعيننا، والأحداث موثقة بشكل لا يُمكن إنكاره. لم يعد هناك مبرر للجهل بقضايا سوريا اليوم. إلا إذا كان هذا "الجهل" ناتجًا عن تعاطف متعمد مع إيران والشيعة، فمن يقع في شرك هذا التعاطف، ينفصل عن الواقع ويعيش في عالم موازٍ.
وهناك أمر آخر:
إذا أردت أن تعرف من يهتم حقًا بمعاناة المسلمين في العالم الإسلامي، فانظر إلى موقفه من القضية السورية. إن المعيار الحقيقي لضمير الإنسان هو الموقف الذي يتخذه تجاه قضية سوريا، التي لا تُحقق أي مكاسب سياسية. على سبيل المثال، لاحظ الذين يهتفون من أجل فلسطين، هل يظهرون نفس الحماس تجاه سوريا؟ سترى البعض يخرج إلى الساحات من أجل فلسطين فقط. وستلاحظ أن من بين الذين يغضبون عندما تقصف إسرائيل غزة، هناك من يتجاهل القصف الذي تتعرض له إدلب من قبل الأسد وإيران. بل ستجد حتى من يشتم نتنياهو، ويمدح الأسد الذي لا يختلف عنه في قتل المسلمين.
لماذا يحدث هذا؟ لأن فلسطين ساحة معركة "مربحة" للغاية تتميز بوجود "سوق" و"عملاء" كثيرين. ويمكن للمرء من خلالها أن يحقق أي أجندة سياسية، وينظم معارضة سياسية، ويروّج لأية شعارات، ويفرغ همومه في قضية فلسطين. لكن هذه المواقف المتناقضة ليست "موقفًا واعيًا"، بل هي استغلال للمعاناة الفلسطينية بكل وقاحة لتحقيق أطماع دنيئة ومصالح خاصة، على حساب جثث الفلسطينيين الأبرياء.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة