نشأ نظام الانتداب عام 1919، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار استبدل بالأنظمة الاستعمارية التقليدية التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر. إن الفروق بين النظامين، وإن كانت حبراً على ورق فهي ذات أهمية بالغة. فالعنف الذي مارسته الدول الأوروبية في المستعمرات خلال القرن التاسع عشر ترك سمعة سيئة، مما أثار موجة كراهية عامة تجاه النظام الاستعماري، حتى داخل المراكز الإمبريالية نفسها. ورغم أن هذا الرفض لم يكن العامل الحاسم الوحيد، إلا أن نظام الانتداب والحماية وجد طريقه للتطبيق في أراضي الدولة العثمانية السابقة. ففي عام 1919، أسست بريطانيا وفرنسا نظام الانتداب في كل من فلسطين وسوريا، مع وعود واضحة بعدم تكرار أساليب الهيمنة الاستعمارية التقليدية، خصوصًا في نظام الانتداب. وكان هذا هو الجديد في النظام.
لكن بريطانيا لم تلتزم بمسؤولياتها ضمن نظام الانتداب، ومهدت الطريق أمام إنشاء مستعمرات استيطانية يهودية في الأراضي الفلسطينية، وهذه نقطة بالغة الأهمية. ورغم أن إعلان بلفور كان ذا قيمة كبيرة بالنسبة للحركة الصهيونية، إلا أن الأهم كان إخلال بريطانيا بوعودها. فقد كان الفارق بين نظام الانتداب والنظام الاستعماري التقليدي واضحًا للغاية، إذ نص النظام الجديد على عدم السماح بإنشاء مستعمرات. ومع ذلك، نفّذت بريطانيا في فلسطين أحد أكثر أشكال الاستعمار الاستيطاني تطرفاً، ومارست ضغوطاً قاسية على الفلسطينيين. وظهر الانتهاك الفاضح للنظام الدولي بوضوح منذ البداية عندما اختارت بريطانيا تعيين مسؤولين في إدارة الانتداب الفلسطيني من بين الصهاينة اليهود. وفي سوريا، سلك الفرنسيون نهجاً مشابهاً، لكن الظروف في سوريا كانت مختلفة. فقد ركز الفرنسيون في ظل نظام الانتداب على صياغة خريطة تقسيم البلاد، مما أدى إلى تقويض وحدة سوريا. وتم تنفيذ نظام مشابه للاستعمار الداخلي في الأراضي السورية.
ورغم الحقائق التاريخية، رفضت بريطانيا وفرنسا الاعتراف باستمرارية النظام الاستعماري القديم. حيث سعتا إلى تغيير البنية السكانية في المناطق الخاضعة لهما بطرق مباشرة. فقد عملت بريطانيا على إدخال جاليات يهودية من الخارج، مما فتح المجال أمام أيديولوجية استعمارية صهيونية، لتُطبق بذلك نموذجًا من الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. أما فرنسا، فقد نفذت نموذجًا من الاستعمار الداخلي، حيث ركزت على إبراز دور الأقليات. ونتيجة لهذه السياسات، شهدت كلتا المنطقتين معاناة استمرت قرابة قرن من الزمان، إذ أصبحت المستوطنات الإسرائيلية مركزًا ذات خبرة في إنتاج الإرهاب، وحولت خبرتها هذه إلى مكاسب مادية بعد الحرب العالمية الثانية عبر تصديرها للخارج.
إن إخلال بريطانيا وفرنسا بالتزاماتهما الدولية وإعادة إحياء تجارب الاستعمار القديم في ظل أنظمة الانتداب أمر بالغ الأهمية. كما أن مقاومة السكان الأصليين لهذه السياسات، وانخراطهم في نضال مستمر ضد النظام الاستعماري لأكثر من قرن لا يقل أهمية. ويتطلب فهم هاتين الحالتين تحليلهما ضمن إطار مترابط. فمن الطبيعي أن يشهد تاريخ الكفاح الذي استمر لمدة قرن مراحل صعود وهبوط. وفي عام 2011، كان النظام السوري، الذي يمثل امتدادًا لنظام الانتداب، على وشك الانهيار. ومع ذلك لم يصغِ أحد للأصوات المعارضة حتى لو تطلب الأمر تهجير السكان بالكامل من سوريا. وعلى مدى أكثر من عقد، تعرض الشعب السوري لهزيمة حقيقية.
بعد سقوط حلب، وجد الكثير من المدنيين أنفسهم محاصرين في إدلب.
كان من المهم جداً أن تكتسب بعض المنظمات التي ظهرت على المستوى المحلي، مثل تنظيمي "غزلن" و "بي كي كي" الإرهابيين، قوة من خلال علاقاتها الشبكية مع المراكز الإمبريالية. كانت هذه الهياكل من أبرز الفاعلين في المرحلة الجديدة. ورغم أن هاتين البنيتين التابعتين لهما خصائص مختلفة، إلا أنهما بذلتا قصارى جهدهما لعرقلة نجاح الحركات المعارضة في سوريا. وعندما استسلم المعارضون في عام 2016، كان من بين المسؤولين الرئيسيين أعضاء من تنظيم "غولن" الإرهابي. ومنذ عام 2014، بدأ نفوذ تركيا في سوريا يتراجع تدريجياً، وفي عام 2016، اضطر أهالي حلب إلى إخلاء مدينة بأكملها. كان هدفهم تغيير التركيبة السكانية للمدن، لكن يبدو أن نقاط ضعفهم قد ظهرت في هذه المرحلة. ومن هذه الناحية، تشبه أحداث سوريا ما جرى في ليبيا. فقد حوصر المعارضون في منطقة صغيرة جداً، ولكنها كانت أيضاً مكاناً لبداية مرحلة جديدة بالنسبة لهم. فمناطق تخفيف التصعيد ومناطق العمليات التركية كانت المكان الذي وُلدت فيه سوريا الجديدة. ويجب ألا ننسى أن هذه المناطق أصبحت آمنة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة 15 يوليو 2016.
من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الأحداث في المستقبل. ولكن هناك معارضة واسعة ومتعمقة بشكل متزايد ضد بريطانيا والولايات المتحدة في العالم الإسلامي. وقد عمَّقت جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين هذه المعارضة بشكل أكبر، لأن هذين البلدين دعما إسرائيل بكل الوسائل. وفي سوريا أيضًا، تسببت الجماعات التي دعمتها هذه الدول في وفاة الملايين وتشريدهم من بيوتهم.
ولكن في النهاية، أصبحت سوريا ملك السوريين.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة