"خان الصابون" و"القرية البيئية" في طرابلس يرويان حكاية وأسرار تطور حرفة صناعة الصابون على مر العصور وانطلاقها من المدينة الواقعة شمال لبنان إلى العالمية.
هذه المعالم الأثرية التجارية كخان الصابون والقرية البيئية تجسد سرا من أسرار طرابلس التي ترمز إلى الغنى الثقافي والحضارة والتطوّر والحرفية في آن واحد.
الخان يعود عمره إلى نحو 600 سنة، إذ أسسه والي طرابلس في عهد المماليك يوسف بك سيفا عام 1480، وكان يتكون من طابقين، السفلي عبارة عن مركز للتبادل التجاري بين لبنان والبلدان الأخرى، وكان الطابق العلوي فندقا سكنيا.
وتتميز طرابلس بأنها أول من احترف فن صناعة الصابون العطري والعلاجي والمزخرف، وكانت تلك الصناعة قديما شعبية ويمتهنها الكثير من أهل المدينة كما كانت بعض منتجاتهم تقدم كهدايا في أوروبا ولسلاطين الدولة العثمانية.
غير أن هذه الصناعة التاريخية توقفت خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) قبل أن يقوم بدر حسون، في السنوات اللاحقة للحرب، بإحيائها ليورثها لأبنائه ممن يعتزمون بدورهم المحافظة على هذا النشاط خصوصا مع التوسع التجاري لشركتهم.
ويعتبر حسون من الجيل الثاني عشر الذي ورث الحرفة عن أجداده من أهم الحرفيين في خان الصابون، حيث يعود تاريخ عائلته في هذه الصناعة إلى حوالي 400 عام.
يقول حسون إنه بحسب الوثائق التاريخية التي حصل عليها، فإن السلطانة المعروفة باسم هيام زوجة السلطان سليمان القانوني كانت من أوائل زبائن عائلته حيث كانت تشتري الصابون لتخزنه في قصر "طوب قابي" في إسطنبول.
ويضيف أن "السلطانة اشترت الخان بأكمله وجعلته وقفاً لمدينة القدس، وأرسلت باخرة محملة من الصابون إلى إسطنبول مما تسبب بتحريك سوق طرابلس، ومن وقتها انتشر تصنيع الصابون حتى في محيط الخان".
أعاد حسون تشكيل مفهوم صناعة الصابون وأنشأ بمنطقة "راس العين" القريبة من طرابلس والتي تشتهر بزراعة الزيتون قرية بيئية مختصة في تصنيع الصابون العضوي.
وبهدف التطوير أنشأ عام 2012 هذه القرية الضخمة لتضمّ صالة عرض ومصنع ومختبر للصابون والزيوت الطبيعية المستخرجة من الأعشاب المزروعة في أراض تملكها العائلة حول القرية والجبال المجاورة والساحل القريب.
ويصنع في قرية بدر حسون حوالي 1480 نوعا من الصابون تصدر إلى معظم أنحاء العالم، وتبدأ أسعارها من 2 إلى 40 دولارا أمريكيا للنوع الواحد.
وفي هذه القرية، شهد العالم ولادة أغلى صابون مصنوعة من الذهب، ويبلغ سعرها ألفين و800 دولار، ما يعتبر من أفخر المنتجات الطبيعية في العالم.
يقول حسون: "انتقلنا من خان الصابون المدينة القديمة الى القرية البيئية لأننا نبحث عن التطور وزيادة الإنتاج لذلك كان لا بد من توسعة المكان".
ويلفت إلى أنه انتقل مع عائلته إلى القرية التي تعتمد على إعادة التدوير والطاقة الشمسية للحصول على الكهرباء، إضافة لانتشار الزراعة فيها بشكل واسع خاصة أشجار الزيتون.
ويضيف: "اخترت القرية ليكون مكانا متكاملا له علاقة بالزراعة والتصنيع والتسويق والتوضيب والشحن، إضافة إلى سكن العائلة المكونة من 65 فردا من أحفادي وأولادي".
وعن تسمية القرية البيئية، يوضح أنه جاء لأنها "تتوافق مع معايير البيئة المتعارف عليها عالميا من حيث الأبنية والبنى التحية المتوافقة مع مفهوم الحفاظ على البيئة والإنتاج العضوي النظيف".
وينتشر الصابون بمختلف أنواعه في صالة عرض بالقرية، ففي زاوية تتدلى عقود الصابون، وتجاورها سلال الصابون الممتلئة المنحوتة والتي لا يمكن للوهلة الأولى تمييزها عن قطع الفاكهة الطبيعية.
تستخرج الخلطات التي تدخل في صناعة أكثر من 1480 منتج بالقرية من نباتات إكليل الجبل والخزامى ونبتة المريمية وزيت الزيتون والورد وغيرها من النباتات، وهي خالية تماماً من الشحوم والمواد الكيميائية.
ولا تتردد عائلة حسون بالمحافظة على تقاليد الأجداد، وهم يستخدمون الزيوت الطبيعية والعطرية إلى جانب النباتات والزهور المجففة بصناعتهم.
وبخصوص مراحل تصنيع المنتجات، يبين حسون أنها تتم عبر أربعة مراحل الأولى تتمثل بالعصر والتقطير والنقع بالأعشاب من بعدها يطبخ الصابون على نار حامية ثم يتم إدخال ماء الأعشاب الطبيّة العطرية بالمزيج.
ويذكر أن "عملية الطبخ تستغرق من 8 إلى 16 ساعة ويترك الصابون ليجف بعدها، ثم يطبخ على البخار وتدخل إليه الأعشاب ثم يضاف إليه العسل".
وبحسب حسون، فإن المواد الأولية تخضع للفحوصات في مختبرات خاصة بما في ذلك المياه، وكذلك المنتج بعد نهاية عملية تصنيعه.
ويلفت إلى أن ما يميز صابون طرابلس عن غيره هو ما يدخله من زيوت ومعطرات وأعشاب إضافية غير الصابون العادي المصنوع فقط من القطران وزيت الزيتون.
ويضيف أن "الصابون الطرابلسي المطيب المصنوع من أعشاب وزيوت وعسل يستخدم لعلاج مختلف أنواع البشرة، إضافة إلى أن الصابون العرائسي المشهور تدخل فيه الملونات الطبيعية والعطور وتهدى العروس منه ليلة زفافها".
من طرابلس إلى العالم
ويذكر حسون، أن أجداده بدأوا بتصدير الصابون إلى فرنسا وتحديدا مدينة مرسيليا (جنوب) منذ القرن الرابع عشر، مشيرا أن منتجات شركته تتواجد حاليا بمعظم أنحاء العالم.
ويضيف أن "الصابون كان قديما ينقل من طرابلس إلى حلب في سوريا ومن ثم إلى تركيا ومنها إلى دول أوروبا"، ويفيد أن تركيا كانت معبرا للصابون الطرابلسي إلى أوروبا قديما.
وعن نوعية الإنتاج يوضح أنه مرتبط بموسم النبات المستخدم في المنتج، قائلاً: "نحن لا ننتج نفس المنتج على مدار العام ونعتمد على الصناعة الجيدة وليس الكمية الكبيرة".