في ظاهرة متصاعدة، أصبحت الملاعب الأوروبية في الآونة الأخيرة مسرحا كبيرا لدعم القضية الفلسطينية العادلة، رغم التضييقات والعقوبات التي تفرضها السلطات والاتحادات الرياضية.
إذ يرفع المشجعون أعلام فلسطين ولافتات تطالب بالحرية لها، ويهتفون تضامنا مع قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة جماعية يرتكبها الجيش الإسرائيلي؛ مما يعكس موجة تضامنية غير مسبوقة مع القضية الفلسطينية داخل ملاعب القارة العجوز.
دعم لا يتوقف رغم القمع
ورغم محاولات قمع هذه المظاهر التضامنية مع غزة وفلسطين في الملاعب الأوروبية، بما في ذلك منع العلم الفلسطيني في بعض المباريات وتغريم الأندية، لم يهدأ هدير الجماهير الداعمة، حيث تتواصل هتافاتهم ورفع شعاراتهم المساندة.
ففي 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري رفع مشجعو نادي "سلتيك" الأسكتلندي الأعلام الفلسطينية خلال مباراتهم مع نادي آر بي لايبزيج الألماني ضمن منافسات دوري أبطال أوروبا.
ويعكس ذلك الموقف الثابت المعروف لهذا الفريق في دعم فلسطين، في وقت يزداد فيه الزخم الجماهيري الأوروبي ضد ممارسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.
وفي 6 نوفمبر، رفع مشجعو فريق باريس سان جيرمان خلال مباراتهم مع نادي أتلتيكو مدريد الإسباني على ملعب "حديقة الأمراء" في باريس، بالبطولة ذاتها، لوحة ضخمة عليها عبارة "الحرية لفلسطين" مع رسومات لقبة الصخرة ولطفلين فلسطيني ولبناني يواجهان الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
هذا العمل التضامني مع غزة ولبنان أثار غضب وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، الذي وصف اللوحات بأنها "غير مقبولة"، ملوّحا بفرض عقوبات على باريس سان جيرمان.
وفي 7 نوفمبر، أثارت أعمال شغب فجرتها هتافات عنصرية لمشجعي فريق مكابي تل أبيب الإسرائيلي ضد العرب والفلسطينيين خلال مباراتهم ببطولة الدوري الأوروبي مع فريق أياكس الهولندي في أمستردام غضبا واسعا من الجماهير الأوروبية، وأعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الشعبي بأوروبا.
وعي متنام للجماهير
علي زبير، الحقوقي المغربي المقيم بألمانيا، يرى أن الدعم الجماهيري لغزة وفلسطين ولبنان في الملاعب الأوروبية "يعكس وعيا متناميا بالقضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية".
وفي حديث مع الأناضول، يعتبر زبير، وهو رئيس "المرصد الأوروبي المغربي للهجرة" (غير حكومي)، أن هذا الدعم "يأتي نتيجة لعجز المجتمع الدولي عن وقف مسلسل قتل إسرائيل للأطفال والنساء في غزة".
ويشير إلى أن جماهير كرة القدم رغم حرصها على الترفيه عبر حضور المباريات، إلا أنها "لا تغفل عن المعاناة الإنسانية في غزة؛ وهو ما يجعلها ترفع لافتات وهتافات داعمة لها".
ويلفت إلى أن "دعم غزة وفلسطين عموما من جانب الشعوب الأوروبية لا يقتصر على مدرجات الملاعب، بل إن المجتمع المدني هناك يشارك بمختلف أطيافه في هذه الموجة التضامنية".
ويؤكد أن الشعوب الأوروبية "متحررة ولا تحب الظلم، بخلاف مواقف بعض حكوماتها التي تركز على مصالحها السياسية".
ملاحقات وتضييق
لكن حرية التعبير للجماهير في الملاعب الأوروبية قوبلت بقمع وتضييق من حكومات متهمة بالمشاركة في الإبادة بغزة، إما عبر تقديم الدعم الاستخباراتي كما هو الحال بالنسبة لبريطانيا، أو السلاح مثل فرنسا وألمانيا.
أحدث فصول هذا القمع التضييق كانت على ملعب "ستاد دو فرانس" في باريس، مساء الخميس، خلال مباراة المنتخب الفرنسي ونظيره الإسرائيلي بدوري الأمم الأوروبية.
إذ أعلن قائد شرطة باريس لوران نونيز، منع رفع العلم الفلسطيني خلال المباراة.
وأكد نونيز أن اللقاء سيجري وسط إجراءات أمنية مشددة، ولن يُسمح سوى برفع العلمين الفرنسي والإسرائيلي، في خطوة تؤكد استمرار القيود المفروضة على مظاهر التضامن مع فلسطين داخل الملاعب الأوروبية.
لكن ناشطين في باريس استبقوا اللقاء بتنظيم مظاهرات داعمة لفلسطين ورافضة للإبادة الإسرائيلية في غزة.
وعبر هؤلاء عن رفضهم لحضور الرئيس إيمانويل ماكرون للمباراة، وانتقدوا استقبال الفريق الإسرائيلي في باريس، معتبرين ذلك محاولة لتبييض صورة دولة قاتلة للأطفال والنساء.
ورغم منع الجماهير من رفع الأعلام الفلسطينية داخل الملعب، حرص هؤلاء الناشطون على رفعها عاليا في شوارع باريس.
كذلك، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات لمقاطعة المباراة تضامنا مع غزة ولبنان.
تقود هذه الحملة مجموعة من الناشطين تعرف بـ"يوروبالستين" EuroPalestine، التي دعت إلى مقاطعة المباراة، وحثت اللاعبين الفرنسيين على عدم المشاركة فيها، ووصفتها بأنها "مباراة إبادة جماعية برعاية فرنسية".
ولا يُعد منع الأعلام الفلسطينية والمظاهر التضامنية مع غزة أمرا جديدا في القارة العجوز؛ فقد لجأ لذلك اتحادات رياضية أوروبية أخرى في الأشهر الماضية، مدعية أن ذلك "تدبيرا ضروريا للحد من الاستفزازات".
ففي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قرر الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم منع دخول الأعلام الفلسطينية إلى الملاعب، إلا أن جماهير الفرق لم تستجب للقرار، واستمرت في رفع الأعلام دعماً لفلسطين.
وفي سياق التضييقات، فرض الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا" غرامة على نادي "سلتيك" الأسكتلندي بلغت 15 ألف جنيه إسترليني (19 ألف دولار)؛ بسبب تلويح جماهيره بأعلام فلسطين خلال مباراة دوري أبطال أوروبا ضد أتلتيكو مدريد في 5 نوفمبر.
وادعى الاتحاد أن رفع المئات من الأعلام الفلسطينية يمثل "رسائل استفزازية ذات طبيعة مسيئة".
ولم تقتصر إجراءات التضييق على المنع والغرامة؛ إذ تعرض مشجع لسلتيك لاعتداء من الشرطة الألمانية في أكتوبر خلال مباراة ضد بوروسيا دورتموند بدوري الأبطال؛ بسبب حمله العلم الفلسطيني.
ونشر المشجع مقطعا عبر منصة "إكس"، يُظهر لحظة الاعتداء عليه وحجز العلم منه؛ مما أثار تعاطفا واسعا معه، ودعما لحق الجماهير في التعبير عن تضامنها مع فلسطين.
وتعليقا على ذلك، يقول زبير: "في الوقت التي تدعم الأنظمة الأوروبية إسرائيل، وتبحث عن مصالحها من خلال الاستجابة للوبيات معينة تساهم في وصولها لرئاسة الحكومة، فإن الشعوب أيضا تعبر عن رأيها سواء في أوقات الانتخابات من خلال صناديق الاقتراع، أو من خلال التعبير عن آرائها داخل مدرجات الملاعب".
ويضيف: "هذا يعني أن ضغط الشعوب مهم في مواجهة الضغوطات الممارسة على الحكومات، خاصة من طرف اللوبيات".
ويؤكد زبير أن تضامن الجماهير مع فلسطين هو "فعل إنساني طبيعي يعكس وعيا بالقضايا العادلة".
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت أكثر من 147 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
وبموازاة حرب الإبادة بغزة، وسّعت إسرائيل ومستوطنوها الهجمات والاعتداءات على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومصادر أرزاقهم في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية؛ ما أسفر إجمالا عن 783 قتيلا، ونحو 6 آلاف و300 جريح منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، و11 ألفا و700 حالة اعتقال، وفق معطيات رسمية فلسطينية.