على خطى طارق

08:4813/11/2024, الأربعاء
تحديث: 13/11/2024, الأربعاء
طه كلينتش

لو سُئلت عن أي مدينة إسلامية لا تزال تحتفظ بهويتها التاريخية، لقلت بلا تردد: فاس. تلك المدينة المحاطة بأسوارها المنيعة، والتي تشكل مساجدها نقاطًا محورية فيها، وتتوزع أسواقها حول المساجد من جميع الجهات، بالإضافة إلى مدارسها والزوايا المنتشرة فيها، وشوارعها الضيقة التي يتم التنقل فيها على ظهور البغال والحمير بدلًا من المركبات الحديثة. فاس تبدو وكأنها انتقلت إلينا من قرون مضت وتجمدت في الزمن. ولا تزال اليوم تحتفظ بجاذبيتها كأكثر مدن المغرب أصالة. في صباح يوم الأحد، أثناء زيارتي إلى جامع القرويين،

لو سُئلت عن أي مدينة إسلامية لا تزال تحتفظ بهويتها التاريخية، لقلت بلا تردد: فاس. تلك المدينة المحاطة بأسوارها المنيعة، والتي تشكل مساجدها نقاطًا محورية فيها، وتتوزع أسواقها حول المساجد من جميع الجهات، بالإضافة إلى مدارسها والزوايا المنتشرة فيها، وشوارعها الضيقة التي يتم التنقل فيها على ظهور البغال والحمير بدلًا من المركبات الحديثة. فاس تبدو وكأنها انتقلت إلينا من قرون مضت وتجمدت في الزمن. ولا تزال اليوم تحتفظ بجاذبيتها كأكثر مدن المغرب أصالة.

في صباح يوم الأحد، أثناء زيارتي إلى جامع القرويين، الذي يشكل قلب فاس، تذكرتُ من جديد ذلك الوضع الغريب الذي يزعجني في كل مرة: جامع القرويين، الذي يُعتبر أول جامعة في العالم، تم بناؤه في عام 859 على يد فاطمة الفهرية، التي حولت ميراثها من والدها إلى هذا المعلم الخالد. ولكن اليوم تمنع النساء المسلمات من زيارة أجزاء المسجد الداخلية أو فحص تفاصيله المعمارية عن كثب. والأسوأ من ذلك هو الأسلوب الفظ الذي يتعامل بها موظفو المسجد مع الزوار عند إعلامهم بهذه القوانين.

في جميع أنحاء المغرب، تُغلق المساجد التاريخية خارج أوقات الصلاة، مما يجعل من المستحيل زيارتها بين الصلوات أو قضاء وقت فيها للتأمل والاسترخاء. تُفتح أبواب المساجد فقط قبيل الأذان، وتُغلق بسرعة بعد انتهاء الصلاة على عجل وكأن هناك حالة من الذعر عند إغلاقها. وعلى النقيض من ذلك، فإن أبواب الأضرحة والتكايا والزوايا مفتوحة على مصراعيها طوال الوقت؛ يمكنكم زيارتها في أي وقت تشاؤون، والجلوس للاستراحة، بل وحتى الاستلقاء لقيلولة. هذا الواقع يعكس سياسة الدولة الرسمية فيما يتعلق بالدين: إذ تُبعد المساجد عن مركزية الحياة الاجتماعية، وتُحوَّل تلبية الاحتياجات الروحية والدينية إلى أماكن أخرى تخضع بشكل كامل لسيطرة الدولة.

وأنا أغادر فاس متجهاً نحو طنجة في الشمال، كنت لا أزال أفكر في جامع القرويين. تخيل لو عاد هذا جامع إلى كونه مركزاً علمياً زاخراً كما كان في العصور الكلاسيكية. ولو ظل مفتوحاً طوال الوقت، مع أسواقه المحيطة، ولو عادت مكتبته وجامعته لتخريج العلماء والفضلاء بما يليق بمكانة القرويين القديمة. إن هذا الحلم لا يُقدر بثمن حقاً.

بعد رحلة استغرقت نحو خمس ساعات، وصلنا إلى طنجة، وكانت المناظر قد تغيرت بالكامل، وجدنا أنفسنا في مدينة ساحلية جميلة تتميز بالألوان الزرقاء والبيضاء، تقع في الطرف الجنوبي من مضيق جبل طارق، حيث يلتقي المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط.

وحينما يُذكر اسم طنجة، يتبادر إلى ذهن كل المسافرين اسم واحد فقط، إنه ابن بطوطة (1304-1369). هذا الرحالة الأعظم على مر العصور يرقد في ضريح صغير داخل شارع ضيق في الجزء التاريخي من طنجة. وقد حقق ابن بطوطة إنجازًا مذهلاً في ظل ظروف زمانه؛ فقد غادر وطنه عام 1325 بنية أداء فريضة الحج، ولم يعد إليه إلا في عام 1353. وخلال رحلاته التي امتدت إلى الصين، قطع ما يُقدّر بـ 117,490 كيلومترًا. وقد شغل مناصب القاضي في بعض البلدان التي زارها، بل عمل حتى في السلك الدبلوماسي، والتقى بأكثر من ستين حاكمًا في أنظمة سياسية ومناخات مختلفة، وأقام علاقات صداقة مع آلاف الأشخاص من مختلف الشعوب.

بعد أن وجهنا تحية احترام ومحبة لابن بطوطة، انتقلنا صباح الاثنين (11 نوفمبر) على متن عبارة إلى الضفة الأخرى من مضيق جبل طارق، إلى إسبانيا. وكان ميناء طريفة، الذي رست فيه سفينتنا يحمل اسم القائد المسلم طريف بن مالك، أحد الفاتحين المسلمين في العصر الأندلسي. وفي طريقنا، صادفنا العديد من الأماكن التي تبدأ أسماؤها بـ"أل"، والتي تذكرنا بالأصول العربية لهذه الأماكن.

كان عبورنا لهذا المضيق الذي عبره طارق بن زياد وجنوده في ربيع 711 على متن السفن، تجربة فريدة تعطي شعوراً مذهلاً، أما رأس جبل طارق الذي يخضع للإدارة البريطانية رغم كونه امتدادًا لإسبانيا، فقد كان بمهابته وقصته رمزًا مستقلًا بذاته. وأثناء رحلتنا إلى مدينة روندا، كان اتباعنا لمسار الفاتحين المسلمين في ظروف وإمكانيات مغايرة تمامًا يملؤ قلوبنا بمشاعر يصعب وصفها.

إسبانيا التي كانت منشغلة بتضميد جراح الفيضانات الأخيرة، بدت لي هذه المرة مختلفة وأكثر جمالًا، ربما بسبب موقفها الثابت من قضية غزة. وفي مدن مثل رُندة، وإشبيلية، وقُرطبة، وغرناطة، كان الإحساس نفسه يتكرر دائمًا.

سأشارككم ملاحظاتي الموجزة عن الأندلس إن شاء الله، يوم السبت المقبل.


#إسبانيا
#المغرب
#فاس
#جبل طارق
#ابن بطوطة
#الأندلس
#جامع القرويين