حلب.. مدينة الألم والأمل في قلب الحضارة الإسلامية

09:387/01/2025, الثلاثاء
تحديث: 7/01/2025, الثلاثاء
أخرى
حلب.. مدينة الألم والأمل في قلب الحضارة الإسلامية
حلب.. مدينة الألم والأمل في قلب الحضارة الإسلامية

التعددية الثقافية في حلب كانت نموذجًا لتعامل الدولة العثمانية مع مختلف الجماعات والطوائف التي كانت تحت حمايتها.

يعود تاريخ استيطان مدينة حلب إلى ما قبل الميلاد بخمسة آلاف عام، وقد تميزت بموقعها الاستراتيجي الذي جعلها نقطة وصل بين بلاد الرافدين والبحر الأبيض المتوسط،.

وازدهرت المدينة على يد الحيثيين واليونانيين والرومان، إلى أن طُبع ختم الإسلام عليها بعد فتحها في السنة السادسة عشرة للهجرة.

ومنذ ذلك الحين، أصبح طابع الحضارة الإسلامية الذي اكتمل في عهد العثمانيين، السمة الأبرز التي تشهد عليها كل زاوية في المدينة.


بعد أن فتح السلطان سليم الأول حلب بقيت تحت حكم الدولة العثمانية 400 عام

بعد حكم الأمويين والعباسيين، انتقلت حلب إلى سيطرة عدة قوى، حتى وقعت تحت حكم المماليك في عام 1260.

وقد شُيدت قلعة حلب التي لا تزال رمزًا للمدينة حتى يومنا هذا، والتي حكمت من القاهرة بعد بغداد ودمشق، في عهد المماليك.

ومع انتقال العثمانيين من مرحلة الإمارة إلى الدولة وتوسع دولتهم بعد فتح إسطنبول عام 1453، شكلت أيضًا تهديدًا للمماليك.

وفي 23 أغسطس 1516، تحقق ما كان يخشاه المماليك، إذ هزم السلطان سليم الأول قواتهم في معركة مرج دابق على بعد حوالي 50 كم شمال حلب، مما أتاح للعثمانيين السيطرة على المدينة.

وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن سكان حلب كانوا مستائين من الضرائب الباهظة والظلم الذي عانوا منه تحت حكم المماليك، لذلك رحبوا بشكل كبير بدخول العثمانيين .

ورغم أن دمشق شهدت تمرداً في عام 1520، إلا أن حلب ظلت وفية للحكم العثماني على مدى أربعة قرون.


كيف تصوَّر العثمانيون مدينة حلب؟

أدى فتح القسطنطينية، التي تمثل إرثًا رومانيًا، إلى تحويل رؤية الدولة العثمانية من خلال عبقرية السلطان محمد الفاتح، لتتناسب مع عقلية إمبراطورية عالمية.

وفي ظل الظروف السائدة في ذلك العصر، كانت الإمبراطورية تحمل طموحات عالمية مما شجع على استقطاب التجار الأجانب والبعثات الدبلوماسية، وبقاء الأقليات الدينية مثل الروم والأرمن واليهود داخل حدود الدولة.

ويُعدّ هذا النهج أحد العوامل التي جعلت الدولة العثمانية أكثر نجاحاً من الدول التركية الإسلامية التي سبقتها.

وفي إطار هذا المنظور الإمبراطوري الذي ترسّخ تدريجيًا بعد عهد السلطان محمد الفاتح، أُعيد صياغة دور حلب بما يتماشى مع موقعها الاستراتيجي ورسالتها التاريخية، فاختيرت لتكون مركزًا قويًا للتجارة الدولية.

وقد كانت التعددية الثقافية في حلب نموذجًا لتعامل الدولة العثمانية مع مختلف الجماعات والطوائف التي كانت تحت حمايتها.

وعند مقارنة هذا النهج بما كان سائدًا في معظم مدن أوروبا، حيث كانت الأقليات الدينية تتعرض للتهميش، يتضح مدى أهمية هذا النهج العثماني.

فقد نجحت الدولة العثمانية في تحقيق توازن بين الواقع المحلي ومصالحها العامة بأسلوب عقلاني، مما أتاح لها إدارة مجتمعات متنوعة دينيًا وثقافيًا بمهارة دون إثارة نزعات أو تمرد.


الإسهامات العثمانية ودور حلب كمركز تجاري

شهدت مدينة حلب تطورًا معماريًا كبيرًا خلال العهد العثماني، حيث أُضيفت المساجد، والمدارس والنوافير والخانات إلى الإرث المعماري الذي ورثته المدينة من فترات حكم الأمويين والعباسيين والأيوبيين والمماليك.

وقد وُظفت المدينة كأحد مراكز التجارة الدولية، حيث كانت تصدّر الحرير والصابون والصوف والتوابل بينما كانت الأقمشة تشكل السلعة الرئيسية التي تستوردها. وكانت الملابس المصنوعة من الأقمشة المنسوجة في حلب تُستخدم في جميع أنحاء الأراضي العثمانية.


مشروع الحداثة في القرن التاسع عشر وتأثيره على حلب

وبعد انضمامها إلى الأراضي العثمانية في القرن السادس عشر، سرعان ما أصبحت حلب إحدى أهم مدن الإمبراطورية وحافظت على مكانتها حتى انفصالها.

ومع ظهور الثورتين الفرنسيّة والصناعيّة اللتين أثرتا بعمق على العالم، دخلت الدولة العثمانية في مرحلة من الإصلاحات لمواكبة التغيرات والظروف الجديدة، وكان من بين هذه الإصلاحات "التنظيمات" التي أثرت بدورها على حلب.

وفي القرن التاسع عشر، أدت مركزية الدول، واكتساب الأقليات للوعي القومي، والمفاهيم الجديدة للثورة الفرنسية وأفكار التنوير، إلى زعزعة البنى التقليدية في مدينة حلب التي كانت تحتضن مجموعات متنوعة من الديانات والأعراق.

وقد أدى الاتفاق التجاري المعروف بـ "معاهدة بلطة ليمان" إلى تغييرات جذرية في التجارة العثمانية، من خلال خفض الرسوم الجمركية بشكل كبير، وهو ما أثر سلباً على سوق حلب.

فقد استفاد التجار اليهود والمسيحيون، الذين كانوا يتحدثون بلغات الأوروبيين، من هذا الوضع وحققوا المزيد من الثراء.

وفي المقابل، تصاعدت التوترات بين التجار المسلمين المحليين، الذين تعرضوا لمنافسة غير متكافئة، وبين الجماعات غير المسلمة.


تغير طرق التجارة وحداثة المدينة المتسارعة

كان افتتاح قناة السويس عام 1869عاملًا آخر أثر سلبًا على مدينة حلب التي كانت قد اكتسبت هويتها من التجارة. و

في تلك الحقبة، كان التأثير الفرنسي في المدينة يزداد وضوحًا، حيث ساهمت المدارس الأجنبية التي كانت تعلّم اللغة الفرنسية في تعزيز هذا التأثير، خاصة بين غير المسلمين، مما أضعف الهيمنة الثقافية العثمانية.

وبالتالي اقتصرت سلطة الدولة العثمانية على الشؤون العسكرية والسياسية.

كما أثرت إصلاحات التنظيمات وكذلك محاولات التحديث التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني، على ملامح مدينة حلب بشكل كبير.

ومع الاستثمارات في البنية التحتية والصحة والتعليم، شهدت المدينة تطوراً ملحوظاً، حيث تم إنشاء ساعة عبد الحميد كمظهر من مظاهر التحديث ورمزاً لسلطة السلطان في عام 1898.

وتم ربط المدينة لأول مرة ببيروت ودمشق عبر خطوط السكك الحديدية، ثم أصبحت إحدى محطات الخط الحديدي الكبير بين إسطنبول وبغداد.

وكان الإعلان عن الدستور الثاني في عام 1908 واستقباله بحماس من قبل أهل المدينة مؤشراً على أن القيم الحديثة قد بدأت تنعكس على ملامح المدينة وأفكار أهلها.


الحرب العالمية والانتداب الفرنسي ودكتاتورية الأسد الدموية

كان مصير حلب بعد عام 1918 من حيث المأساة مشابهًا لبقية المراكز التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية في المنطقة.

وخلال الحرب العالمية الأولى، تم تعيين جمال باشا من قبل السلطة العليا لحكومة الاتحاد والترقي حاكمًا لسوريا، حيث عاقب بشدة بعض النخب المحلية متهمًا إياهم بالانتماء إلى القومية العربية.

وكانت هذه الأحداث نتيجة مباشرة للسياسات المتشددة والإقصائية التي تبناها الاتحاد والترقي بعد "الغارة على الباب العالي" عام 1913.

فقد دفعت هذه السياسات العناصر المحلية التي كانت تتمتع بفرص التمثيل من خلال الإصلاحات والتنظيمات البرلمانية إلى أحضان الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين الذين كانوا يتطلعون إلى تحقيق مصالحهم الإمبريالية.

وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كانت حلب من أوائل المدن التي استحوذت على اهتمام القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية.

فتقاسمت هاتان القوتان النفوذ في المنطقة بموجب اتفاقيات سرية، وأنشأت فرنسا الانتداب الفرنسي على سوريا، لتكون حلب بذلك إحدى أهم مدينتي الخارطة الصورية الاصطناعية لسوريا التي رسمت على طاولة المفاوضات.

ورغم حصول سوريا على استقلالها عام 1944م في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إلا أن هذا الاستقلال لم يكن سوى تحول من شكل من أشكال الأسر والاستعمار إلى آخر، فسرعان ما وقعت البلاد تحت نير دكتاتورية عائلة الأسد القمعية، التي مارست الظلم والاستبداد بحق الشعب متأثرة بالتيارات القومية العربية التي قادها الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

وقد نالت حلب نصيبها من هذا الاستعباد، إلا أنها تمكنت بفضل تاريخها العريق وثقافتها الغنية وإرثها التجاري من الصمود قدر المستطاع في ظل هذه الظروف الصعبة.

ومنذ اندلاع الحرب الأهلية السورية عام 2012، كانت حلب من أشد المدن تضرراً. وظلت تحت سيطرة المعارضة حتى عام 2016.

ولكن بفضل الدعم الإيراني والروسي، تمكن نظام الأسد المستبد الذي لطخت يداه بدماء شعبه، من استعادتها وإطالة أمد الأزمة حتى 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حيث بسطت فصائل سورية سيطرتها على العاصمة دمشق بعد أيام من السيطرة على مدن أخرى، لينتهي بذلك 61 عاما من حكم نظام حزب البعث الدموي و53 سنة من حكم عائلة الأسد.








#حلب
#سوريا
#الحضارة
#الثقافة
#نظام الأسد
#الثورة السورية
#الدولة العثمانية
#تركيا