منذ أكثر من 10 أيام مضت على إنطلاق عملية غصن الزيتون، وحتى اللحظة، تمت مناقشة العديد من أبعاد هذه العملية وعلى رأسها "العسكري"، وهي تستحق تقييما أكثر من حدود مناقشة أبعادها التكتيكية العسكرية.
** عملية عفرين والموازين في سوريا
أعلنت تركيا بشكل واضح جدا دوافعها الأمنية لبدء العملية، إذ لا يوجد هناك شكوك حول ضرورتها وشرعيتها، حيث تعتبر التشكيلات المشتقة من بي كا كا الإرهابي في سوريا مصدر تهديد إرهابي بالنسبة لتركيا على المدى القريب، وخطر استراتيجي على المدى البعيد يستهدف وحدة الأراضي التركية.
وعلاوة عن ذلك، من الواضح أن أنقرة لم تستطع اتباع مسار مقرب من مسارات دول المنطقة أو الدول الكبرى المعنية بالأزمة السورية بخصوص القضاء على تهديد ميليشيات "ب ي د"، ولهذا السبب أصبحت العملية العسكرية التركية أمر لا مفر منه.
وبشكل مثير للغرابة، ومنذ بدء العملية، تم التركيز على التكتيكات العسكرية بشكل أكبر من دوافع ونتائج العملية نفسها، إذ سُلط الضوء على القرى التي تشهد اشتباكات، والقوى المشاركة في العملية بدرجة كبيرة، وبطبيعة الحال بالتأكيد يجب مناقشة الأبعاد العسكرية للعملية بهدف إطلاع الرأي العام ورفع معنويات الشعب، لكن من جهة أخرى يجب تجنب مشاركة معلومات عسكرية حساسة لضمان نجاح العملية.
وبالنظر إلى التطورات الأخيرة الجارية، من المهم جدا مناقشة كيفية تأثير طبيعة العملية على المنطقة.
بدأت عملية غصن الزيتون التأثير على موازين القوى في سوريا، حيث أنزلت ضربة قاسية على محاولات (ب ي د) في كسب اعتراف رسمي دائم من الولايات المتحدة وروسيا على الأراضي السورية.
وفي هذا الإطار، سيؤثر فقدان (ب ي د) السيطرة على عفرين سلبا على مشروعها بعيد المدى بشأن إجراء تغيير ديموغرافي وتمكين نفوذها في المناطق التي سيطرت عليها بعد داعش إثر تلقيها دعم أمريكي اعتبارا من عام 2014.
والسبب في ذلك، أن خسارة (ب ي د)، بعدما تركت انطباعا أنها لا تُقهر نتيجة تلقيها الدعم من دول عظمى، سيترك أثرا كبيرا على الأهالي، شمالي سوريا، حيث لن يكتفي نجاح غصن الزيتون بإزالة التهديد الإرهابي الذي يطال الحدود الجنوبية التركية، إنما سيساهم أيضا في بعث الأمل في نفوس الكثيرين ممن اضطروا للنزوح إثر سيطرة (ب ي د) على مناطقهم قبل 3 أعوام، بخصوص العودة إلى منازلهم مجددا.
وبناء عليه، ستتغير توقعات الكثير من المهجرين من أهالي منبج ومناطق شرقي الفرات على المدى القريب عقب نجاح غصن الزيتون.
** مرحلة عزل "ب ي د"
البعد الثاني من تغير موازين القوى، هو العلاقة بين (ب ي د) ونظام الأسد، إذ بدأت العلاقة بينهما تكتسب بعدا جديدا، بعدما أضحت وثيقة نتيجة انسحاب قوات النظام من مناطق شمالي سوريا، وتسليمها لمليشيات "ب ي د/ ي ب ك".
فبالرغم من اتهام نظام الأسد لقوات "ي ب ك" عقب تلقيها دعما أمريكيا دائما، إلا أن العلاقة بين دمشق والميليشيات الإرهابية تحمل طبيعة مختلفة.
فبينما كانت ميليشيات (ب ي د) تعتقد نفسها أنها أصبحت تتمتع بقوة كبيرة نتيجة الدعم الأمريكي، لدرجة تمكنها من مجابهة النظام السوري حتى قبل أسابيع قليلة، تجد نفسها اليوم بحاجة الأسد لمواصلة وجودها في المنطقة.
ففي ظل الدعم الأمريكي الصريح، والروسي الخفي، ما كانت ميليشيات (ب ي د) تسمح لقوات الأسد بدخول عفرين في الأحوال العادية، إلا أن بدء غصن الزيتون جعلها توجه دعوة للنظام السوري علانية للتدخل للدفاع عن المنطقة.
ولا شك أن هذه الدعوة ستعزز من قبضة النظام السوري، كما أنها قد تفتح المجال على المدى المتوسط أمام توجه قواته نحو باقي مناطق سيطرة (ب ي د) شرقي البلاد نتيجة اتفاقيات بين الجانبين.
أما البعد التالي لعملية غصن الزيتون، فهو نبذ التشكيلات المشتقة من تنظم بي كا كا في سوريا ضمن إطار مساعي الحل السياسي للأزمة السورية، حيث تتمسك تركيا بمبدأين ثابتين للتوصل إلى حل سياسي، أولها، اعتبار استمرار الأسد في السلطة من أهم العوائق أمام إحلال الأمن والاستقرار بالبلاد، وثانيها يتمثل في أن التنظيمات الإرهابية تشكل خطرا على وحدة الأراضي السورية.
غير أن تعريف التنظيمات الإرهابية يختلف من دولة إلى أخرى، ففي الوقت الذي تم فيه التوصل إلى اجماع بشأن تصنيف التنظيمات المنبثقة عن تنظيم القاعدة مثل داعش، نجد أنه ما زال هناك خلاف حول تصنيف "ب ي د/ ي ب ك".
وبالرغم من تجاهل الكثير من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة للعلاقة بين "ب ي د"، و"ي ب ك"، وبي كا كا، إلا أنه يجب اعتبار عدم دعوة (ب ي د) كممثل عن الأكراد إلى مؤتمر سوتشي، تطور مهم للغاية ناجم عن عملية غصن الزيتون، إذ تعد نقطة البداية لعزل الميليشيات في المنطقة، لكن ينبغي عدم الاكتفاء بهذا القدر، إنما نقل مساعي عزل (ب ي د) لمستويات أعلى.
** المستقبل القريب
ستشهد سوريا الكثير من التطورات على هامش عملية غصن الزيتون، فمن الناحية العسكرية، قد تفتح الطريق أمام عملية جديدة في منبج، لكن يجب عدم تجاهل التطورات السياسية المحتملة أيضا، حيث ينبغي علينا على وجه الخصوص تذكر احتمال تقدم النظام السوري في مناطق حساسة مثل الرقة ودير الزور نتيجة اتفاقيات مع (ب ي د).
بالتأكيد أن أنقرة أطلقت عملية غصن الزيتون ضمن إطار مكافحة الإرهاب بالدرجة الأولى، حيث تهدف لتطهير المنطقة بشكل دائم من تنظيم "ب ي د/ بي كا كا"، لكنها قد تساهم في تغيير الموازين بسوريا بشكل دائم أيضا، وخلال هذه المرحلة، يعتبر موقف تركيا الحازم ونجاحها في العملية من أهم محددات هذه المرحلة.
فبينما كانت تركيا تستهدف تنظيم داعش في درع الفرات، ساهمت العملية في تغيير الموازين شمالي سوريا، وعليه يمكننا التنبؤ أن غصن الزيتون التي تستهدف "ب ي د" ستذهب أبعد من ذلك وستؤثر على موازين القوى بين عدد من الأطراف في المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المحلل السياسي سرهات إركمين، عضو الهيئة التدريسية في قسم العلاقات العامة بجامعة أهي إفران في ولاية "كير شهير" وسط تركيا.