قبل ظهور المقاهي الحديثة، كانت المقاهي التقليدية، ومحال الحلويات، ومقاهي الشاي هي الأماكن الأكثر شيوعًا. ومع أن المقاهي الحديثة جمعت بين هذه المفاهيم الثلاثة في نموذج واحد، إلا أن تسويقها بأسعار مرتفعة كمفهوم مبتكر أتاح استمرار وجود المقاهي التقليدية ومحال الحلويات ومقاهي الشاي.
أود أن أؤكد هنا على نقطة مهمة: أحيانًا يكون الابتكار في ذات الفكرة نفسها، وعندما يتم ابتكار فكرة جديدة، يجري تسويقها بقوة حتى النهاية. وأقصد هنا تحديدًا قطاع الخدمات.
ولكن عندما ينضب هذا الزخم التسويقي، ينبغي الانتقال إلى تسويق المنتجات ذاتها داخل هذا النشاط لضمان استمراريته. سأقدم أمثلة مرتبطة بهذا السياق قبل التطرق إلى مقاهي الشاي التابعة للمساجد. لكن قبل ذلك، أرى أنه من المهم الإشارة إلى أن قطاع التمويل التشاركي قد حان الوقت له للانتقال من تسويق "وجوده" إلى تسويق منتجاته. دعونا نواصل
تشهد المقاهي التقليدية تراجعًا في شعبيتها، حيث أصبح روادها من كبار السن فوق الخمسين عامًا. ورغم محاولة كمال كليجدار أوغلو أثناء جائحة كورونا، من خلال تقديم نفسه بلمسة فكاهية كوجه إعلاني لدعمها، إلا أن تلك المحاولات لم تكن كافية. السبب في ذلك أن المقاهي التقليدية لم تستطع تقديم منتج جديد؛ المشروبات المبتكرة مثل الصودا بالفستق أو اللبن بالصودا لم تحقق النجاح المنشود. أصبحت المقاهي تعتمد على الملل وإدمان الألعاب، وهو ما أضعف قدرتها على الابتكار بسبب الراحة التي وفرتها له هذه الركائز. والوضع مشابه إلى حد كبير بالنسبة التمويل التشاركي.
لقد تمكنت محال الحلويات التي تفتقر إلى مناطق الراحة التقليدية، من النجاة والتكيف من خلال مجموعة من الابتكارات التي ساعدتها على إيجاد موطئ قدم جديد لها في السوق. ومن بين هذه الابتكارات، ظهرت منتجات مثل البقلاوة الباردة والكنافة بالحليب، التي ساهمت في جذب قاعدة عملاء جديدة. غير أن المنتج الذي وفر للمحلات فرصة استثنائية للبقاء هو كيكة "تري ليتشي". لا أعرف بالضبط من الذي ابتكر هذا المنتج أو جلبه إلى السوق ولكنه أصبحت أساسًا لصناعة ضخمة. ولو سُئلت عن أهم ثلاثة أطعمة ولّدت أكبر عوائد اقتصادية في تركيا، فسأذكر الشاورما، واللحم بعجين، والكفتة النيئة، وأضيف إليها كيكة "تري ليتشي" في المرتبة الرابعة.
من ناحية أخرى، تمثل الكافيهات والمخابز والمقاهي التقليدية ومقاهي الشاي أنواعًا متقاربة من الأعمال التجارية، تتباين فيما بينها وفقًا لنموذج التسعير. في قاع هذا الهرم، نجد مقاهي الشاي، التي تركز على تقديم الخدمات بأسعار معقولة، معتمدة على حجم المبيعات. هذه المقاهي تخدم عادةً شريحة معينة مثل العاملين المناطق الصناعية والأسواق العمالَ وزوارهم، بينما مقاهي الشاي التابعة للمساجد تلبي احتياجات المصلين، وعادةً ما يرتادها كبار السن.
لكن في الآونة الأخيرة، لاحظت زيادة في إقبال الشباب على مقاهي الشاي الموجودة في ساحات المساجد أو بالقرب منها. وقد أثرت هذا الموضوع في النقاش، لأنني أعتقد أن وراء هذا الإقبال علاقة اقتصادية. ويبدو أن ارتفاع الأسعار ومستويات الدخل غير الكافية لعبت دورًا في هذا السياق.
ولكن حضور الشباب المنتظم إلى مقاهي الشاي المحيطة بالمساجد لا يمكن اختزاله فقط في مسألة اقتصادية. بل أرى فيه نوعًا من التعبير عن رفضهم للأسعار الجائرة وللنظام الرأسمالي. علاوة على ذلك، وألاحظ في هذا التوجه طابعًا مميزًا يعكس شخصية الشباب اليوم. وكما أكرر دائمًا، الشباب يركزون على القيمة مقابل السعر. وأجد في ذلك ميلاً لإفشال ألاعيب الرأسمالية التي وُلدوا في كنفها، حتى لو لم يتحقق ذلك بعد.
فالشباب، على عكس الأجيال السابقة من مواليد السبعينيات والثمانينيات، لا يسعون لشراء المكانة الاجتماعية بالمال. أو بعبارة أخرى يهتمون بالوظيفة والغاية أكثر من المظهر أو الصورة.
المساجد، بما تمثله من أماكن جميلة وهادئة ومفيدة، وبيئة توفر الشاي بأسعار معقولة، تُعتبر خيارًا مفضلًا مقارنة بالأماكن ذات الزخارف الباهظة التي تفتقر إلى الجوهر.
والآن، أعود للسؤال الأساسي: لماذا آثرت مناقشة هذه القضايا؟ سأنتقل إلى الجانب الفكري من الموضوع.
كلما زادت البساطة قلت احتمالية الخطأ، الفترة الحالية التي تشهد كثرة الخيارات هي حالة استثنائية، وما زالت حديثة العهد ومن المحتمل أن تتحول في يوم من الأيام إلى جنون وتنتهي. وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فسنفقد إيماننا وممتلكاتنا. ستصبح البساطة والوضوح أكثر أهمية لأنها تقلل من احتمالية حدوث أخطاء. لكن الرأسمالية لا تهتم بذلك، فهي تفضل الاحتكار والسيطرة، والبساطة لا تساعدها على ذلك.
هذه هي المخاطر، لكنني لست متشائما، فالتصدي للرأسمالية خيار وارد وممكن التنفيذ.
أما الدافع الثاني الذي يدفعني إلى مناقشة هذا الموضوع، فيتعلق بالبعد الاقتصادي لهذه الأفكار، فلندع الجانب الفكري الآن ونتحدث عن مدى تأثير المعلومات على الوحدات الاقتصادية.
إن فهم التحولات الجارية واستيعاب سلوكيات الشباب ضرورة حتمية. فالتفكير بأسلوب الأجيال السابقة، وبناء التنظيمات وفقًا لهذا التفكير، لا يعد بأي مستقبل مشرق . على بعض الوحدات الاقتصادية أن تتبنى نهجًا يشبهمقاهي الشاي في المساجد، بينما يجب على وحدات أخرى أن تتبع ما يناسب طبيعة أعمالها.
على سبيل المثال، قد يفضل الشباب الدراجات النارية على السيارات. ولكن بالنسبة للأجيال السابقة، لم يكن يُنظر إلى هذين الخيارين باعتبارهما بدائل لبعضهما البعض. ومن منظورهم، فإن الاستثمار في تصنيع دراجات كهربائية كان ليُعتبر خطوة بعيدة عن التصورات المستقبلية.
كونوا على يقين أنه إذا ظهرت هواتف ذكية عملية وبدون علامة تجارية فسيختارها شباب اليوم. لم تعد معايير الجيل السابق في الإنفاق على الملابس الفاخرة والعلامات التجارية الأجنبية تحقق الأرباح كما كانت من قبل. بل حتى مفاهيم المتاجر يتغير. ففي قطاع الأجهزة المنزلية، على سبيل المثال، باتت المتاجر الاقتصادية وبيع المستعمل تزداد انتشارًا. وحتى في قطاع الصحة، تراجع الإقبال على الخدمات الصحية، فأصبحت المستشفيات الحكومية أكثر جذبًا بفضل خدماتها وكفاءتها الاقتصادية.. يمكنني ضرب المزيد من الأمثلة، لكن هذه كافية لإيصال الفكرة وإظهار التغيير.
بالطبع، ليس الهدف من هذا هو إظهار التغيير للشباب، فربما يجدون صعوبة في فهم التغيير كونه جزءًا منهم أو قد لا يكترثون به. ولكن المؤسسات والجهات التي تتعامل مع هذه الفئة ملزمة بفهم التغيرات وتحليلها بما يتناسب مع طبيعة أعمالها، إذ يرتبط مستقبلها ارتباطًا وثيقًا بقدرتها على التكيف مع هذه التحولات. أما توظيف هذه التحليلات لمواجهة الرأسمالية، فهو بلا شك أمر مفيد.
ختامًا، يمكن استنتاج أن الطلب على المعايير الوظيفية قد يتجاوز في المستقبل الطلب على تعددية الخيارات التي توفرها الديمقراطية. ومن المحتمل أن تصبح الديمقراطية في الفترة القادمة، بما تطرحه من تنوع واسع في الخيارات، عرضةً للنقد بسبب زيادة مخاطر الخطأ المرتبطة بهذا التنوع.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة