لطالما حذرنا من أن البنية التي تحاول الولايات المتحدة بناءها في شمال سوريا بدعمها الكبير على مر السنين هي بنية غير مبررة وغير ضرورية بل ضارة. ولكن الوضع الجديد الذي نشأ في سوريا قد جعل هذه البنية، التي تم فرضها بشكل قسري عديمة الجدوى تمامًا.
فالولايات المتحدة التي تبعد خمسة آلاف ميل عن المنطقة، اعتبرت أن تنظيمًا إرهابيًا ظهر على حدود حليفتها في الناتو، تركيا، يمثل تهديدًا لها ومن ثَم قامت بتسليح تنظيم إرهابي آخر لإنشاء كيان أشبه بدولة بهدف محاربة هذا التنظيم المزعوم. وأثناء ذلك تحالفت بشكل كامل مع النظام السوري. ورغم ادعاءاتها بمواجهة التهديدات الافتراضية أو المحتملة التي قد تشكلها الجماعات الإرهابية ضد حياة المدنيين إلا أنها لم تحرك ساكنًا ضد النظام الذي ارتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك المجازر وسجن مئات الآلاف من الأبرياء وقتلهم بشكل وحشي.
الولايات المتحدة ليست الحل بل مصدر المشكلة
في الواقع، لم تكن الولايات المتحدة في أي وقت مضى فاعلًا لحل المشكلات في عملياتها الخارجية، بل كانت دائمًا المصدر الرئيسي للمشاكل. فالتنسيق بين الولايات المتحدة وتنظيم "واي بي جي" الإرهابي، الذي دعمته بحجة محاربة تنظيم داعش، يتماشى مع مصالح النظام السوري القاتل. فقد سلّم الأسد هذه المنطقة إلى الولايات المتحدة وإلى "واي بي جي" الإرهابي بكل ارتياح، مدفوعًا برغبته في الانتقام من تركيا. ومن الجدير بالذكر أن استخدام نظام الأسد لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي ضد تركيا لم يبدأ بعد عام 2011 بل سبق ذلك بكثير. ففي عهد حافظ الأسد حتى دون وجود دافع انتقامي واضح، كان النظام يقدم دعمًا لوجستيًا شاملًا لتنظيم "بي كي كي" لاستخدامه ضد تركيا.
وعندما تبنت تركيا مبادرة شجاعة وسلمية إلى أقصى حد خلال عملية السلام، لحل المشكلة الكردية كانت العروض المغرية التي قُدمت لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي هي نتيجة للوضع الذي نشأ في شمال سوريا بالتعاون بين نظام الأسد والولايات المتحدة. فقد استند "بي كي كي" إلى دعم الولايات المتحدة، بينما اعتمد أنصار حزب الشعب الديمقراطي على "بي كي كي" وقاموا بكل وقاحة وتعنت بتقويض عملية السلام التي بدأها أردوغان رغم المخاطر الكبيرة.
وبعد سقوط نظام الأسد وتوحيد سوريا لأول مرة منذ سنوات، ظهرت المناطق التي قدمتها الولايات المتحدة كهدية ل "وا بي جي" بوضوح شديد. هذه المناطق التي تضم غالبية حقول النفط في سوريا يسكنها أغلبية عربية ترغب الآن بأن تكون جزءًا من سوريا الموحدة، ولا أحد منهم يريد العيش تحت إدارة الولايات المتحدة وتنظيم "واي بي جي". وفي حين لم يُسمع أي أثر لتنظيم "داعش" منذ سنوات، فإن ظهوره المفاجئ بأفعال غريبة يفضح الألاعيب التي تقف وراءه. غير أن هذه المحاولات لن تكون كافية لتبرير الوجود الأمريكي غير الضروري وغير المناسب في سوريا.
في ظل الظروف الحالية، وفي إطار العملية الجارية حاليًا لـ"تركيا خالية من الإرهاب"، من مصلحة الجميع ألا يفسر البعض مبادرات الرئيس أردوغان بشكل خاطئ كما حدث في الماضي، وأن يمتنعوا عن استغلال هذه المبادرات لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة. فقد سبق لهذه المبادرات أن قوبلت باستغلال من قبل بعض الأطراف التي سعت إلى توسيع نفوذها على حساب مصالح الدولة، مما كلف تركيا الكثير من الوقت والجهد، وفي نهاية المطاف كانوا هم الخاسرين الأكبر.
انهيار رأس المال الاجتماعي الأمريكي
في الوقت ذاته، يجدر بمن يعولون على الولايات المتحدة للحفاظ على بعض امتيازاتهم في سوريا أن يأخذوا العبرة من حالة العجز التي أظهرتها واشنطن أمام الحرائق المندلعة مؤخرًا في ولاية كاليفورنيا، وخصوصًا في لوس أنجلوس. فقد أظهرت هذه الكارثة فشلًا ذريعًا وانهيارًا واضحًا لجهاز الدولة الأمريكية في إدارة الأزمة، حيث تحولت آلاف الفلل في أكثر المناطق ثراءً في أغنى الولايات الأمريكية وأرقى المناطق السكنية إلى رماد.
إن عدد رجال الإطفاء محدود للغاية، كما أن الوسائل المتاحة لإخماد الحرائق، مثل الطائرات والمروحيات غير كافية. ونتيجة لذلك، تتسارع وتيرة انتشار النيران، حتى باتت صورة المدينة في غضون يومين أشبه بما تشهده غزة.
في الواقع الحرائق ليست ظاهرة جديدة على الولايات المتحدة، وخاصة ولاية كاليفورنيا، فهي تعد أغنى ولاية في الولايات المتحدة واقتصادها يضاهي اقتصاد العديد من الدول، لكن فشل النظام في مكافحة حريق واحد لا يعد مجرد عجز إداري فحسب، بل يعكس أيضًا مدى تآكل رأس المال الاجتماعي في أكثر المجتمعات الأمريكية ازدهارًا، وضعف قدرتها على التصدي للمشاكل المشتركة والتضامن الاجتماعي. فكلما زادت الثروة المادية كان من المحتم أن تظهر مثل هذه الصور البائسة ما لم تدعم هذه الثروة المادية برأس مال اجتماعي قوي. والجانب المأساوي في الأمر هو وجود علاقة خطية بين تطور رأس المال الاقتصادي وتراجع رأس المال الاجتماعي. وقد خصصت مجلة "تذكرة" ملفها الأخير لدراسة رأس المال الاجتماعي، حيث تناولت مجموعة من الدراسات النظرية والتطبيقية المخاطر التي تهدد العالم الحديث والمتقدم. وتُعد حالة الولايات المتحدة في مواجهة هذه الحرائق مثالاً صارخًا على هذه المخاطر.
لم يعد للولايات المتحدة أي مبرر في سوريا
إن عجز الولايات المتحدة عن إدارة شؤونها الداخلية، كما يتضح من فشلها في التعامل مع الحرائق، يبين بوضوح أنها لم تعد قادرة على فرض إرادتها على العالم كما كانت تفعل من قبل. وهذا خبر سيئ لتنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي وغيره من الجماعات التي ترجو المساعدة من الولايات المتحدة في سوريا. ومن المعروف أن ترامب، الذي يرى أن عجز إدارته عن مواجهة الحرائق هو دليل على فشل الإدارة، يرى أيضاً أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة تتناقض مع هذا العجز الداخلي.
لا تمتلك الولايات المتحدة أي حلول تقدمها للشعب السوري، ولا أي مصلحة حقيقية أو فائدة للأكراد. ومن أحضرها إلى هنا بدافع المغامرة قد استنفد طاقته، وبات واضحًا للجميع عواقب مغامرتها والكوارث التي تسببت بها.
إن الواقع والآفاق الجديدة في الشرق الأوسط اليوم، سواء في سوريا أو تركيا، تتطلب من الأتراك والأكراد والعرب العمل معًا لبناء عالمهم ومستقبلهم، والتخلص من التدخلات الإمبريالية الانتهازية غير المرغوب فيها.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة