انحلت عقدة الحرب السورية، التي استمرت 13 عاماً وأثرت في العالم أجمع، في غضون 13 يوماً فقط. هذه هي الصورة الظاهرة للوهلة الأولى. فاحتفالات الشعب السوري بتحرره بعد سقوط نظام الأسد تكشف بوضوح حجم الظلم والقمع والاستبداد الذي عانوه طيلة 61 عامًا. ولكن الحقيقة أن صرخات المأساة التي عاشها السوريون بدأت بالظهور هنا منذ فترة طويلة. وكانت أصوات ملايين اللاجئين الذين اضطروا للهروب من بلادهم تعكس بوضوح حجم الكارثة التي كانت تجري هناك. وكما هو الحال دائمًا، كانت استجابة العالم لهذه الصرخات في البداية تبدو وكأنها اهتمام حقيقي، بل تفاعل العالم بشكل كبير، ولكن سرعان ما تلاشى هذا الاهتمام مع الوقت، ليعتاد العالم على ما يجري. فالظلم مهما بلغ حجمه، إذا استمر دون رادع اعتاد الناس عليه. ولهذا لا شك أن كل من التزم الصمت إزاء هذه المجازر اللاإنسانية يتحمّل جزءًا من المسؤولية. وسنأتي على ذكر ذلك في وقت لاحق إن شاء الله.
دعونا نستعرض ما شهدناه خلال وجودنا في سوريا. ولمن يتساءلون عن السر وراء تحرير الثوار للمدن والبلدات والقرى من استبداد الأسد الواحدة تلو الأخرى بهذه السرعة، يكفيهم النظر إلى المشاهد المروعة والوحشية التي خرجت من سجن صيدنايا وغيره من السجون. لقد عاش الشعب السوري سنوات طويلة تحت وطأة تهديد هذه السجون، ولم يكن هناك أحد في سوريا يجهل وجود هذه السجون وما يجري فيها. لذلك، كان انضمام الشعب بالكامل إلى صفوف الثوار أمرًا محتمًا بمجرد أن لاحت فرصة حقيقية للخلاص من نظام الأسد.
أما الاحتفالات التي شهدناها في ساحة الحميدية بدمشق، حيث تجمع الشباب والأطفال والطلاب الجامعيين يملؤهم الحماس، فهي تجربة جديدة ربما تكون هي الأولى في سوريا. فقد اعتاد هؤلاء الشباب على المشاركة في الاحتفالات الرسمية التي يفرضها النظام، ولكن هذه المرة الأولى التي يجتمعون فيها بمحض إرادتهم ليحتفلوا ويعيشوا فرحة حقيقية.
عندما زرنا مقر حزب البعث في حلب، رأينا من النوافذ كيف يتجول الناس بحرية حول المبنى. قال لنا أحد التجار الحلبيين: "في السابق، كان المشي والمرور من أمام مقر الحزب يتطلب شجاعة كبيرة". وبينما كنا نشاهد مجموعات من الشباب يتجمعون في الحديقة الكبيرة التي يطل عليها مقر الحزب، تذكّرنا مجدداً أنه حتى قبل أسبوع فقط، كان من المستحيل رؤية هذا المشهد.
ثم جاء التقييم الأكثر دقة: لا تظنوا أن الذين تم تحريرهم هم الأشخاص الذين تم إخراجهم من السجون فقط. فالشعب السوري بأسره كان يعيش في سجن، وبنجاح الثورة، خرجت سوريا كلها من ذلك السجن. ولهذا منذ اليوم الأول، امتلأت الميادين بالناس للاحتفال منذ اليوم الأول. وكان الشباب الذين تذوقوا لأول مرة طعم الحرية، يعيشون أجواء من الفرح لم يعرفوها من قبل ويستمتعون بها.
في الواقع، لم يكن الهدف أو المخطط الأولي للعملية التي بدأت في 27 نوفمبر هو الوصول إلى هذه النتيجة في جميع أنحاء سوريا. ولكن بمجرد أن بدأت الثورة، كانت الأحداث تتوالى بشكل سريع وطبيعي. كان النظام يعتقد أنه قادر على القضاء على المعارضة التي كانت قد استقرت في إدلب والمناطق المحيطة بها، فشرع في تكثيف وجوده هناك. وكان الهدف الأولي للعملية العسكرية هو "ردع العدوان"، في محاولة لطرد قوات النظام من إدلب وتنفيذ عملية في حلب في الوقت نفسه.
لطالما كانت قضية إدارة حلب موضوعًا مطروحًا، وكنا قد أشرنا إليها في مقالاتنا طوال العامين الماضيين. وكان من الممكن أن يشكل تولي المعارضة إدارة حلب في الحقيقة، حلاً مؤقتًا لكنه جيد نسبيًا لتركيا وجميع السوريين. ومن المحتمل أن الثوار قد ركزوا في البداية على هذا الهدف بناءً على هذه الفكرة. ولكن عندما دخلوا حلب، أدت تصرفاتهم تجاه الشعب، وطرقهم في التعامل معهم، والرسائل التي قدموها، إلى فتح الطريق أمام مشاركة الشعب في عملية الثورة، ليس فقط في حلب بل في جميع المدن التي تلتها، في حماة وحمص وجنوب إدلب وكل البلدات المحيطة، كان الجنود التابعون لنظام البعث يثقون بما فيه الكفاية بوعد الثوار بعدم التعرض لمن يترك السلاح ويخلع زيه العسكري، وبالتالي استسلموا وسلموا أسلحتهم. وبهذا، تم الوصول إلى دمشق بأقل طريقة دموية ممكنة.
وفي كل مدينة زرناها بدءًا من حلب، كنا نلتقي بالعديد من السوريين الذين نعرفهم من تركيا. وعندما نسألهم "كيف وصلتم إلى هنا بهذه السرعة؟" يجيبون: "لم نستطع الانتظار أكثر، فجئنا على الفور لرؤية أحبائنا الذين لم نرهم منذ 13 عامًا، ولنتفقد منازلنا". وكانت السعادة والفرح الباديين على وجوههم تبهج القلوب عند رؤيتها، هذا الحماس البريء لا يمكن مقارنته بفرحة الانتصار لأولئك الذين جاءوا للسيطرة على أراضٍ أو احتلالها. ففرحة العودة المنتصرة للمضطهدين الذين تم إخراجهم من منازلهم قسرًا تحت وطأة الظلم، لا يمكن مقارنتها بأي لقاء آخر. إنها فرحة مشروعة وصادقة، وحق مكتسب بجدارة.
حلب هي مهد للحضارات العريقة، فهي تملك كل المقومات لبناء حضارات عظيمة. ولكن هذه المقومات ظلت مكبوتة لقرن كامل، حيث فُرض عليها أفظع وأحقر الأنظمة التي يمكن أن يشهدها العالم، فسيطر عليها وأحكم قبضته لمنع أي نهضة أو تقدم. وحتى في عهد العثمانيين كانت حلب من أكبر مراكز التجارة والثقافة، وكان سكانها يمثلون نموذجًا مصغرًا للتركيبة السكانية في تركيا، حيث يجتمع فيها مختلف الأعراق والثقافات مثل التركمان والعرب والأكراد والأرمن، مما يوفر التنوع الثقافي اللازم لبناء أي حضارة.
والآن، من يستطيع أن يوقف حلب الآن بعد أن تحررت من قيودها؟ كما يقول أكاديمي سوري درس في تركيا، بعد أن عاد إلى حلب والتم شمله بأسرته.
في الحقيقة، تمتلك سوريا كافة المقومات اللازمة لتصبح دولة قوية وغنية. فأراضيها خصبة للغاية، وشعبها يعرف بجدّيته وكفاءته. ولكن الآن، هناك عنصر إضافي إلى جانب هذه المقومات، وهو الطاقة الاجتماعية الكبيرة التي ستنتج عن حصول أولئك الذين بقوا في بلادهم على حريتهم ودفعوا أثمانًا باهظة وقدموا تضحيات كبيرة في ظل الاستبداد والظلم الذي تعرضوا له. علاوة على ذلك، فإن عودة السوريين الذين اضطروا للعيش كلاجئين في الخارج إلى ديارهم ستُساهم في بناء رأس المال الاجتماعي، مما يفتح مجالًا كبيرًا لتمكين سوريا من العودة إلى الساحة التاريخية بعد إعادة إعمارها.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة