نحن وقيمنا

08:3218/11/2024, Pazartesi
تحديث: 18/11/2024, Pazartesi
ياسين اكتاي

غالبًا ما نشعر بخيبة أمل عميقة عندما نكتشف الفجوة الشاسعة بين تصوراتنا المثالية عن المجتمع وبين الواقع المعاش. هذه الحالة شائعة جدًا، وخاصة لدى الأفراد الذين لديهم رؤى سياسية أو يتبنون قضايا معينة، فكثيرًا ما يعانون من صدمة كبيرة عندما يدركون أن الجماهير التي يدعون تمثيلها لا تولي اهتمامًا لقضاياهم. وبغض النظر عن القضية التي تدافعون عنها أو الرؤية التي تتبنونها، فإن إدراك المسافة الفاصلة بين ما تقومون به وبين اهتمامات المجتمع، وقياسها، وتقييمها، والتصرف وفقاً لذلك، قبل أن تلاحظوا أن الشعب منشغل

غالبًا ما نشعر بخيبة أمل عميقة عندما نكتشف الفجوة الشاسعة بين تصوراتنا المثالية عن المجتمع وبين الواقع المعاش. هذه الحالة شائعة جدًا، وخاصة لدى الأفراد الذين لديهم رؤى سياسية أو يتبنون قضايا معينة، فكثيرًا ما يعانون من صدمة كبيرة عندما يدركون أن الجماهير التي يدعون تمثيلها لا تولي اهتمامًا لقضاياهم. وبغض النظر عن القضية التي تدافعون عنها أو الرؤية التي تتبنونها، فإن إدراك المسافة الفاصلة بين ما تقومون به وبين اهتمامات المجتمع، وقياسها، وتقييمها، والتصرف وفقاً لذلك، قبل أن تلاحظوا أن الشعب منشغل بشؤونه الخاصة، أو بمساعيه الترفيهية، أو أنه يعيش في عالم مختلف تمامًا، يُعد من القواعد الأساسية الثابتة للنجاح في السياسية، بالطبع هذا إذا كنت تمارس السياسة على مستوى ديمقراطي. أما إذا قررت ممارسة السياسة "رغم الشعب"، فهذا يعني أنك على دراية بهذه المسافات، وتسعى من البداية لفرض معاييرك الخاصة على الشعب.

وفي هذا السياق، قامت مؤسسة أنقرة للعلوم الاجتماعية، بقيادة البروفيسور بشير أتالاي وفريق بحثي ضم البروفيسور عمر دمير وإبراهيم دالمش وأ. عمر توبراك وجيم إيرجي، تقرير بإعداد بحث حول القيم لعام 2024. ويُعد هذا التقرير محاولة جادة لفهم المجتمع دون إسقاط افتراضات مسبقة عليه. ورغم أن القيم الاجتماعية تتغير بمرور الوقت وتعتبر مجالًا ديناميكيًا، إلا أنها تشكل الدوافع التي تحدد ملامح شخصية المجتمع. ورغم إهمال علم الاجتماع الوضعي لهذا المجال إلى حد كبير، إلا أنه منذ منذ ماكس فيبر، أصبح البحث عن أصالة المجتمع مرهونًا بدراسة هذه القيم الفريدة.

ويرى ماكس فيبر أن التقدم الذي شهدته المجتمعات الغربية يرجع إلى تأثير بعض القيم التي تجلت بوضوح في البروتستانتية، مثل العمل الجاد والشاق، والالتزام بالوعود، والانضباط المهني، والادخار، والعقلانية. ويرى أن هذه القيم هي التي ساهمت في نشوء الرأسمالية في الغرب وتطور أوروبا بالشكل الذي نعرفه. وعلى النقيض من ذلك، فقد تم ربط تأخر المجتمعات الإسلامية بنسب قيم معاكسة تمامًا للإسلام. بيد أن هذه الافتراضات كانت نابعة من عقلية استشراقية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجتمع الإسلامي. فلا القيم البروتستانتية كانت مسؤولة عن التطور الأوروبي كما يُعتقد، ولا المجتمعات الإسلامية تخلّفت حقًا بسبب افتقارها المزعوم لتلك القيم.

هذه التقييمات، التي ظهرت قبل ماكس فيبر واكتسبت معه صياغة سوسيولوجية، أعتقد أنها وجهت أبحاث السوسيولوجيا بشكل خاطئ على مدار قرن تقريبًا. فالنهج الذي يربط التقدم الذي حققته المجتمعات الغربية على مدى قرنين من الزمان في جميع المجالات بالقيم الإيجابية التي يمتلكها في مختلف المجالات لم يشر على الإطلاق إلى قيم أخرى مثل الاحتلال، والاستعمار والنهب والإبادة الجماعية، والقيم الإنسانية التي تبرر هذه الأفعال. فقد تم ربط نشوء الرأسمالية الأوروبية بشكل وثيق بجدية التاجر أو المستثمر البروتستانتي وتقواه وزهده، في حين تم تصوير المسلمين على أنهم ضحايا للكسل والإدارة غير الرشيدة واللامبالاة. واليوم، بتنا ندرك أن هذه المقارنات لم تكن سوى محاولة لتبرير الاستعمار وإضفاء الشرعية عليه.

في النهاية، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن علاقة القوة غير المتكافئة التي نشأت بيننا وبين العالم الغربي كانت أحد العوامل المؤثرة بشكل كبير في تشكيل خريطة القيم في المجتمع التركي. فمنذ اللحظة التي انهزم فيها العثمانيون في الحرب، بدأت القيم التي لا تمت للإسلام أو للمجتمع بصلة تُزرع بسرعة وبشكل عدواني على أراضيهم. خلال فترة حزب واحد في تركيا، كانت السياسات التعليمية التي وُضعت تهدف إلى تغيير المجتمع من جذوره، كما هو واضح، وفرض التغيير عليه ضد إرادته. ولكن في المقابل، أسفرت مقاومة المجتمع وحرصه على التمسك بقيمه التقليدية عن خريطة قيم مختلفة ومتشابكة للغاية.

إن دراسة القيم لعام 2024، شأنها شأن العديد من الدراسات الأخرى المتعلقة بالهوية والقيم، تحاول فعلاً إيجاد طريق وسط هذه الخريطة المعقدة. ويدرك بعض الباحثين وجود هذه الخلفية التاريخية، والبعض الآخر لا يدركها أو يتجاهلها ويحاول تحديد القيم الحالية دون النظر إلى تاريخها.

أما دراستنا الحالية فهي مدركة تمامًا لهذه الخلفية التاريخية، ولهذا السبب تركز بشكل خاص على تطلعات ورغبات المجتمع اليوم فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة وبين العلمانية، وذلك في سياق تطور هذه القيم عبر الزمن.

ورغم جميع التوترات التي شهدتها تركيا في نهاية القرن العشرين، فقد تطور مفهوم العلمانية في تركيا بشكل مختلف تمامًا عما كان يريده مؤسسوها. وتشير الدراسة إلى وجود تبني واسع النطاق للعلمانية حتى بين المحافظين، ولكن محتواها يختلف تمامًا عن العلمانية الكمالية. فقد تطور في تركيا موقف مثير للاهتمام حيال عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية وعدم تدخل الدين في شؤون الدولة. وهذا في الواقع يمثل قيمة إيجابية تتمثل في تفضيل الحرية على الضغوطات التي قد تمارسها الدولة أو بعض الجماعات الدينية. أعتقد أن هذه هي أهم نتائج الدراسة، بغض النظر عن نسب البيانات.

على سبيل المثال، تؤكد أغلبية كبيرة من المجتمع على ضرورة تقديم تعليم ديني كافٍ للشباب في المدارس. ولا تتجاوز نسبة المعارضين لهذه الفكرة 18%. إن هذا الدعم الكبير لهذه الرؤية يجعل من غير الضروري البحث عن اختلافات بناءً على المتغيرات الديموغرافية أو المتغيرات الأخرى المستقلة.

أما السؤال الآخر المتعلق بالدين فهو السؤال القديم حول ما إذا كان الدين قوة دافعة للتنمية الاقتصادية أم عاملًا معوقًا، وهو السؤال المعروف منذ قرنين من الزمن "هل الإسلام يعيق التقدم؟" فتشير نتائج البحث إلى أن الغالبية العظمى من المجتمع (حوالي 80%) لا تتفق مع الرأي القائل بأن الدين الإسلامي يشكل عقبة أمام النمو الاقتصادي. بينما لا تتجاوز نسبة الذين يوافقون على هذا الرأي 18%. وهذا يعني أن الغالبية العظمى من المجتمع لا ترى علاقة سببية بين الإسلام والتخلف.

وتتناول الدراسة دور الهوية في فهم المجتمع، إلى جانب مواضيع مثل الحرية والعمل والدفاع والرفاهية والديمقراطية والقادة والمؤسسات وسياسة تركيا تجاه المهاجرين وقضية إعادة المهاجرين إلى بلادهم، بالإضافة إلى مسألة تساوي الأمم أو تفوق بعضها على البعض الآخر. من الصعب تناول جميع هذه المحاور هنا، فجميعها تستحق تحليلاً مطولاً ودراسة معمقة. لكنني سأختتم بالإشارة إلى أحد أبرز هذه المواضيع.

في الدراسة، طُرِح سؤال حول ما إذا كان هناك أمة متفوقة على غيرها، وإن وُجدت، فهل يعد هذا التفوق طبيعيًا؟

ورغم أن النزعة القومية في تركيا قوية ومتجذرة في المجتمع التركي، إلا أن الغالبية العظمى من المجتمع (حوالي 84%) تتفق على أن العالم سيكون مكانًا أفضل إذا كانت جميع الأمم متساوية. وقد اعتبر الباحثون هذه النتيجة دليلاً على مدى انتشار قبول فكرة المساواة بين الأمم كقيمة راسخة في المجتمع التركي، وأن القومية في تركيا ليست من النوع السلبي الذي يشار إليه في الأدبيات.

إن فهم القيم وتتبع تطورها أمر بالغ الأهمية لفهم أنفسنا كمجتمع، ومراقبة مسار التغيرات التي نمر بها، سواء كانت تلك التغيرات تشير إلى تحسن أو تدهور أو انحراف.


#القيم
#الأخلاق
#تركيا
#الإسلام
#العلمانية
#ويبر فيبر