الاستغراب.. هل يهدم السردية السائدة أم يعيد تشكيلها

11:0812/10/2024, السبت
ياسين اكتاي

نحن اليوم في مرحلة تدفعنا فيها أحداث طوفان الأقصى إلى إعادة تقييم وفهم كل شيء وكل شخص من جديد، وفهم الأمور في هذا السياق بالذات. أليس هذا هو بالضبط ما تتطلبه شروط الفهم الأساسية؟ في الحقيقة، لا يمكننا أن ندرك أو نفهم أي شيء بمعزل عن تجاربنا المتعلقة به. لكن عندما يتعلق الأمر بالاستشراق أو الاستغراب، فإن الفهم يأخذ طابعًا يعتمد بشكل كبير على السياق. استضافت جامعة سامسون مؤخرًا ندوة رائعة ليوم واحد حول مفهومٍ من المفترض أن يكون الأكثر تأثراً بأجواء "طوفان الأقصى"، وهو ما يجعل فهمه في هذا السياق أكثر

نحن اليوم في مرحلة تدفعنا فيها أحداث طوفان الأقصى إلى إعادة تقييم وفهم كل شيء وكل شخص من جديد، وفهم الأمور في هذا السياق بالذات. أليس هذا هو بالضبط ما تتطلبه شروط الفهم الأساسية؟ في الحقيقة، لا يمكننا أن ندرك أو نفهم أي شيء بمعزل عن تجاربنا المتعلقة به. لكن عندما يتعلق الأمر بالاستشراق أو الاستغراب، فإن الفهم يأخذ طابعًا يعتمد بشكل كبير على السياق.

استضافت جامعة سامسون مؤخرًا ندوة رائعة ليوم واحد حول مفهومٍ من المفترض أن يكون الأكثر تأثراً بأجواء "طوفان الأقصى"، وهو ما يجعل فهمه في هذا السياق أكثر معنى، ويمكن أن يفتح من خلاله الباب لمراجعة العديد من مفاهيمنا الحالية. وكان موضوع الندوة هو الاستغراب، أو ما يعرف أيضًا بـ "العلم بالغرب".

وكما تذكرون، قبل عامين نظمت جامعة سيرت ندوة حول الاستغراب برئاسة البروفيسور الدكتور إحسان سُريّا سرما، وبإشراف كل من البروفيسور الدكتور جمال الدين أردمجي والبروفيسور الدكتور فاضل أيغان. وكانت هذه الندوة الأولى من نوعها في تركيا.

والاستغراب، كما وصفه جميل ميريتش، هو "ذراع الاستعمار الاستكشافي"، وهو في جوهره مجال فكري ورد فعل عاطفي وأدبي ضد الاستشراق. ورغم احتوائه على طابع انتقامي دفين، إلا أنه يظل ظاهرة أكاديمية لا يمكن تجاهلها. فكما أبدى الغربيون اهتمامهم بالشرق، كان للشرقيين اهتمام مماثل بالغرب وسيظل هذا الاهتمام موجوداً، وإن لم يكن بنفس الأسلوب أو التنظيم. ولكن ربما كان الاكتشاف الأبرز الذي توصل إليه إدوارد سعيد في كتابه الرائد هو أن مفهومي "الشرق" و"الغرب"، إلى جانب الهوية الشرقية والغربية، هي في حد ذاتها من صنع الخطاب الاستشراقي.

أي أن مفهوم الشرق قد تم بناؤه من خلال تحويل الشرق إلى موضوع ودراسته وتصنيفه وتسميته وإعطائه صفات مختلفة. ومن هنا، ظهرت المعرفة المتعلقة بالشرق وشكلت الخطاب المعروف. وبالمثل، فإن التصورات والمعارف والخطابات الموجهة من الشرق ـ الذي حدده الغرب ـ نحو أوروبا قد أدت إلى تشكيل مفهوم الغرب.

ولتحقيق ذلك، كان يجب عليهم أولاً أن يتقبلوا أنهم شرقيون. وحتى المسلمون في تركيا أعطوا أهمية كبيرة لوصف هويتهم كشرقيين مما عزز هذا من أهمية التصور. فقد تم التعبير عن العداء للغرب باسم الهوية الشرقية. واستمر الحديث عن فكرة "الشرق الكبير" كهوية وحركة. ولكن في أثناء ذلك، تم تجاهل حقيقة أن المسلمين أسسوا واحدة من أقوى وأطول الحضارات في التاريخ في أقصى الغرب المعروف آنذاك، وهو الأندلس.

وإذا كان "الاستشراق" هو الذراع الاستكشافية للاستعمار، فإن ما يتعين علينا القيام به كمسلمين بالطبع عدم استخدام الاستغراب كذراع استكشافية لاستعمارنا. ففي الإسلام، الشرق والغرب ملك لله، ويمكن للمسلم أن يكون شرقياً أو غربياً. في الواقع، لا تحمل التساؤلات والبحث عن "الغرب" أو دراسته أي ادعاء من هذا القبيل. بل على العكس، تفتح هذه المفاهيم مجالاً مهماً للتفكير في ذواتنا والآخرين، حاملةً في طياتها أسئلة قد تقودنا إلى آفاق جديدة ومثمرة.

وفي الكلمة الافتتاحية للندوة، سعى الأستاذ البروفيسور محمود آيدن، رئيس جامعة سامسون، والذي يعد أيضًا مؤرخًا بارزاً للأديان، إلى تقديم الموضوع من منظور الفرق بين العقيدة الإسلامية واليهودية والمسيحية بدلاً من المحور الشرقي والغربي. وقدم نهجًا مبتكراً يكسر النمط التقليدي ردًا على وصف الخطاب الاستشراقي للإسلام بأنه دين مرتبط بالسيف، حيث أكد أن "استخدام السيف أمر شائع في جميع الفتوحات والتوسعات، ولكن الفرق يكمن في كيفية استخدامه. هل استخدم للقضاء على الآخر أم لحمايته؟ ". وعندما تُجرى المقارنة بهذه الطريقة، يتضح أن اليهود والمسيحيين قد استخدموا السيف بشكل أكبر، دون أن يتسامحوا مع الطرف الآخر، بل استخدموه فقط للإبادة. بينما قدّم الإسلام للناس خيار ممارسة معتقداتهم بحرية تحت حماية وأمان السيف.

وفي الندوة التي قدمتُ فيها بحثاً بعنوان "هل يدمر الاستغراب السرد المهيمن أم يعيد إنتاجه؟" أظهر المشاركون من مختلف الجامعات التركية عمقاً فكرياً وأداءً عالياً، مما عزز تفاؤلي بالمستوى الأكاديمي في جامعاتنا، الذي كنت أتحدث عنه دائماً في الآونة الأخيرة عند الحديث عن الجامعات. ولن أستطيع سرد تفاصيل مساهمات جميع المشاركين، ولكن مجرد ذكر عناوين أبحاثهم سيعطي فكرة واضحة.

فقد قدّم الدكتور أحمد دميرهان بحثاً بعنوان " الاستشراق والاستغراب ومشكلة أوروبا"، والدكتور عبد الله متين بحثاً بعنوان "التخصص الذي يبحث عن مساره: ما ليس عليه الاستغراب"، والبروفيسور علي أوتكو بحثاُ بعنوان "المقترحات الأيديولوجية الحديثة والاستغراب في أواخر العهد العثماني"، والدكتور بيامي صفا غولاي "هل بدأت الفلسفة في القرن الثامن عشر؟ التاريخ العنصري للفلسفة". والدكتورة فاطمة قزل بحثا بعنوان "خطاب الهيمنة في الدراسات الإسلامية الأكاديمية في الغرب"، والدكتورة فاطمة ساين بحثا بعنوان "مشكلة التمثيل المزدوج في مواجهة الشرق والغرب: دراسة فلسفية لأعمال عثمان حمدي"، والدكتور آدم إنجه بحثا بعنوان "معضلات البلاغة الكمالية الغربية: تحليل الجهود المبذولة لإنشاء أمة وهمية"، والدكتور وفا جان كايا بحثا بعنوان "الخطاب الغربي للكمالية اليسارية.. أتيلا إلهان ونيازي بيركس أنموذجاً"، والدكتور يشار يشيلورت بحثاً بعنوان "طه عبد الرحمن والاستغراب.. النقد الأخلاقي للغرب"، والدكتور حسن هارمانجي بحثاً بعنوان "كمال طاهر وعبد الرحمن الشرقاوي وقضية الغرب". وقد وسعت هذه العروض آفاقي بشكل كبير.

لا شك أن تصورات المسلمين عن الغرب ومعارفهم حوله تأثرت بشكل كبير بما عاشوه، فبعد أن عايش المسلمون شعورًا بالنقص في الماضي وتبنوا خطاباً دفاعياً لمواجهة صورة الغرب المتقدم والمسلم المتخلف، بدأت تهب اليوم رياح جديدة تختلف تماماً عن سابقتها.

وقد دفعت الأحداث التي وقعت بعد عام 1967 إدوارد سعيد لتأليف كتابه "الاستشراق" الذي قلب هذا الخطاب رأساً على عقب. وقد مر على صدور هذا الكتاب 46 عاماً، وظهرت اليوم رؤى فكرية أوسع وأعمق تتجاوز أفكار سعيد وتنتقدها. وفوق ذلك، نحن نعيش اليوم في حقبة تاريخية مختلفة، حيث لا يعاني فقط الفلسطينيون في غزة من إبادة جماعية بدعم أمريكي وأوروبي غير محدود، بل إن الغرب نفسه يشهد انهيار صورته النمطية وتصورات الآخرين عنه. فطوفان الأقصى كشف وجه الغرب الصليبي الصهيوني القبيح، وأسقط جميع أقنعته. وفي ضوء هذه التطورات، فإن معرفتنا وفهمنا للغرب، أي الاستغراب لن يتشكلا بمعزل عن هذا الوعي الجدي


#الاستغراب
#الغرب
#الشرق
#الاستشراق
#المسلمون
#أوروبا