زعيمة إيطاليا، جيورجيا ميلوني، التي لا تخفي إعجابها بموسوليني وأفكارها الفاشية، أثارت جدلًا في خطابها الحماسي حين زعمت أن روما يجب أن تكون عاصمة أوروبا. هذا الادعاء، من منظور تاريخي، خاطئ تمامًا. وليس من المستغرب أن يصدر مثل هذا الكلام عن زعيمة تحمل توجهات فاشية، لأن الفاشيين لا يتعلمون من التاريخ؛ بل يستخدمونه لأغراضهم، وغالبًا بأسوأ الطرق الممكنة.
أديولوجية الهوية الأوروبية حديثة العهد، ولا تمتلك جذورًا تاريخية عميقة. ولهذا السبب، سعى الأوروبيون إلى بناء سردية تاريخية تبرر وجودهم الثقافي، فعرفوا أنفسهم من خلال نسب حضارتهم إلى الثقافة الإغريقية-الرومانية العريقة التي نشأت في أعماق تاريخ البحر الأبيض المتوسط. صحيح أن حركة النهضة بدأت في إيطاليا الحديثة وتأثرت بهذا الإرث، ويمكن اعتبار ذلك منطقيًا. ولكن من غير المناسب أن تنسب "النهضات" الأخرى التي شهدتها القارة الأوروبية نفسها إلى هوية رومانية أو يونانية، لأن ذلك يبدو مصطنعًا وغير متماسك.
لا شك أن الإمبراطورية الرومانية تركت بعض الآثار في مناطق مثل فرنسا، وهولندا، وحتى بريطانيا، وأقامت فيها مراكز عسكرية، ولكن هذه الآثار تظل ضئيلة جدًا عند مقارنتها بالإرث الروماني العظيم في منطقة البحر الأبيض المتوسط. فالحقيقة أن أوروبا المتوسطية، وخاصة الجزء الشرقي منها، هي الحاضنة الحقيقية لهذا الإرث الروماني. على سبيل المثال، لا نجد مدنًا رومانية رائعة مثل زيوغما، وتدمر، أو البتراء في أوروبا. وعند مقارنة التراث الأثري في أوروبا مع ما تمتلكه مصر، واليونان، والأناضول، يبدو التراث الأوروبي متواضعًا للغاية.
امتلاء المتاحف الأوروبية بالآثار المنهوبة من حوض البحر الأبيض المتوسط هو انعكاس لعقدة نقص ثقافية. الجميع يعلم، على سبيل المثال، أن مذبح بيرغامون محتجز في برلين، وكل شخص واعٍ وذو ضمير يدرك أن المتاحف الأوروبية التي تضم هذه الكنوز ليست سوى سجون ثقافية لهذه الآثار.
أعتمد جبال الألب غالبًا كنقطة مركزية لفهم أوروبا الحقيقية. من هذا المركز يمكن رسم خط يُحدد بوضوح المناطق التي تنتمي إلى أوروبا الحقيقية. المنطقة الواقعة جنوب هذا الخط تُعرف بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، وتشمل البلقان، التي نُطلق عليها اسم "بلاد الروم"، أي أرض الإمبراطورية الرومانية. كما تُعد الأناضول، المعروفة بديار الروم، جزءًا من هذا العالم، ويمتد تأثيره إلى حدود فارس. بإيجاز، هذه المنطقة الجغرافية الشاسعة تبدأ من جبل طارق في الغرب وتنتهي عند جبل آرارات في الشرق. ورغم التنوع الثقافي الباهر الذي يميز هذه المنطقة، فإن القاسم المشترك بين أطرافها هو استفادتها جميعًا، وبأشكال مختلفة، من الإرث الروماني الإمبراطوري سواء من النواحي الثقافية أو الإدارية.
أطلق الرومان على البحر الأبيض المتوسط اسم "بحرنا" (Mare Nostrum). وبدأت روما تتبلور كإمبراطورية ذات مؤسسات ونظم متكاملة في عام 27 قبل الميلاد، على يد الإمبراطور أغسطس. وفي عام 395 ميلادي، انقسمت الإمبراطورية إلى شطرين، بينما شهد عام 476 سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية. لكن سقوطها لم يكن النهاية, إذ وُلدت روما من جديد في إسطنبول، حيث كان الإمبراطور قسطنطين المؤسس الثاني لها، وجعل من القسطنطينية عاصمتها الجديدة.
ومن أبرز المحطات التاريخية التي منحت الأتراك مكانة استثنائية في التاريخ، أننا أصبحنا المؤسسين والورثة الثالثين للإمبراطورية الرومانية. كان السلطان محمد الفاتح هو المؤسس الثالث لروما، ولم يكن قوله: "أنا قيصر الروم" مجرد لقب عابر، بل إعلان عن استمرارية هذا الإرث. أعيد تأسيس روما في عام 1453 على يد العثمانيين، هذه المرة كدولة إسلامية تركية، واستمر هذا الكيان حتى عام 1923.
نحن المسلمون الأتراك الروميون جزء لا يتجزأ من إرث حضاري يمتد لأكثر من ألفي عام. (ولا ننسى أن آيا صوفيا كانت تبلغ من العمر 900 عام عندما فتحها السلطان محمد الفاتح).
التاريخ الأوروبي هو نتاج مرحلة طويلة خلت من وجود الدول المركزية، هيمنت خلالها الكنيسة الكاثوليكية بوصفها القوة المهيمنة، في إطار نظام الإقطاعية. هذا النظام كان على النقيض تمامًا من تقاليد الإمبراطورية التي جسدتها روما. لم تعترف الكنيسة يومًا بروما الجديدة في القسطنطينية، بل نشب صراع طويل بين "روما المتخيلة" في الغرب و"روما الحقيقية" في إسطنبول. وبينما تقلصت الأولى تدريجيًا واندثرت، استمرت الثانية نابضة بالحياة لقرون عديدة.
التاريخ الأوروبي الحديث هو في جوهره تاريخ ما بعد روما، حيث ظلت أوروبا تعاني عقدة "غياب روما". وقد جسّد فولتير هذا الشعور عندما سخر من الإمبراطورية الرومانية المقدسة قائلاً: "لم تكن مقدسة، ولا رومانية، ولا إمبراطورية". هذه العقدة ظهرت بوضوح في تطلعات القياصرة الروس، وبرزت بشكل أكثر وضوحًا في شخصية نابليون.
الاتحاد الأوروبي اليوم يمثل تجسيدًا لحلم "روما". وتتمحور قيادته حول ألمانيا وفرنسا، إلا أن ألمانيا لم تكن يومًا جزءًا من إرث روما، بينما فرنسا، بجغرافيتها المطلة جزئيًا على البحر الأبيض المتوسط، لم تكن من الدول المتوسطية بشكل كامل، وإنما تأثرت بهامش بسيط من هذا العالم. ورغم هذا التأثير المحدود، إلا أنه كان كافيًا لإحداث انقسامات داخل الاتحاد الأوروبي.
إذا كان هناك ما يمكن وصفه بـ"الروح الأوروبية"، فإن ألمانيا هي التي صاغت معاييرها وحددت أسسها الصارمة. أما إسبانيا، فرغم توجهها نحو المحيط الأطلسي، إلا أنها ظلت دائمًا جزءًا من عالم المتوسط. وبالنسبة لفرنسا، ورغم أن أحد جوانبها يطل على المتوسط، إلا أنها لم تصبح يومًا دولة متوسطية حقيقية، ولم تصل في ارتباطها بالأطلسي إلى مستوى دول مثل هولندا. الوضع ذاته ينطبق على إيطاليا، التي تمكن شمالها القريب من جبال الألب والمتأثر بالنفوذ النمساوي، من التكيف جزئيًا مع الاتحاد الأوروبي. لكن إيطاليا لم تصل إلى مستويات الانضباط الأوروبي التي تميز دولًا مثل ألمانيا، والنمسا، وهولندا، والدنمارك، وبلجيكا.
فرنسا وإيطاليا، إذًا، تمثلان نموذجًا لدول أوروبية هجينة، عالقة بين المتوسط والأطلسي، دون أن تتمكن من الانتماء الكامل لأي منهما. فرنسا، في حقيقتها، هي مزيج من الانتماءات غير المكتملة. أما إيطاليا، فهي منقسمة بين تورينو في الشمال، التي تشعر بالقرب من النمسا، ونابولي في الجنوب، التي تعبر عن روح المتوسط بشكل كامل.
أما الدول المتوسطية الأخرى في الاتحاد الأوروبي، مثل إسبانيا، والبرتغال، واليونان، فقد عُرفت بتأديتها غير المتوافقة تمامًا مع معايير الاتحاد الأوروبي، حيث تباين أداؤها بشكل ملحوظ عن الدول الأكثر التزامًا بتلك المعايير.
نشهد حاليًا واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا في تاريخ الاتحاد الأوروبي، حيث يبدو أن الخيار الأكثر منطقية وانسجامًا مع هذه المرحلة يتمثل في انفصال دول البحر الأبيض المتوسط عن الاتحاد الأوروبي، الذي باتت تشعر داخله بحالة من الاغتراب. العمليات التي أضعفت البحر الأبيض المتوسط هي ذاتها التي أسست أوروبا عبر الأطلسي. واليوم، تسير الأمور في الاتجاه المعاكس. أؤمن بأن أفول الاتحاد الأوروبي يعني بداية نهضة المتوسط مجددًا. (وهذا تحديدًا ما يمكن أن ينقذ تاريخ تغريبنا من التشوه والسطحية، ويضفي عليه عمقًا واتساقًا).
إنها فرصة تاريخية، لكنها تتطلب تحقيق شرطين أساسيين. أولًا، ينبغي طرد الصهيونية بشكل نهائي من جغرافية المتوسط. وثانيًا، يجب تجنب الوقوع في براثن بدائل سياسية تعتمد على أطماع دينية أو مركزيات عرقية قد تحل محل الصهيونية. وإلا، فإن هذه الفرصة ستُدفن مجددًا في صفحات التاريخ.
سيدة ميلوني، أنتم مخطئون... لا تليق بروما أن تكون عاصمة للاتحاد الأوروبي. كيف يمكن لروما العظيمة أن تقارن نفسها ببروكسل، تلك المدينة الناشئة ذات الهوية المجهولة؟ إن روما هي العاصمة الحقيقية الوحيدة في أوروبا، وكل ما عداها لا يتجاوز كونه ظاهرة عابرة. إذا كانت روما ستتبوأ مكانة العاصمة، فإنها تستحق أن تكون عاصمة لدول البحر الأبيض المتوسط، وبالطبع إلى جانب شريكتها إسطنبول. ومع ذلك، في ظل عالم فكري أفسدته الفاشية، يصبح إدراك هذه الحقائق أمرًا بالغ الصعوبة.
سيدة ميلوني، بدلاً من أن تظهري تعاطفك مع ترامب ونتنياهو، ارفعي رأسك وتأملي المشهد. انظري إلى التعاون الذي يبنيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، رغم اختلاف ميولهما السياسية، تحت مظلة التضامن والشراكة المتوسطية. تعلمي من جهودهما التي يبذلانها من أجل أطفال غزة، والفلسطينيين، والمسلمين، وأيضًا المتوسطيين، الذين يُقتلون هناك.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة