إن دعوة الرئيس أردوغان إلى التقارب مع النظام السوري، بعد أكثر من عقد من القطيعة الشديدة، وعرضه المصالحة بصدق، تتشابه مع المبادرات التي طرحها رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي منذ أسابيع. فقد اتسمت كلا المبادرتين بميزتين بارزتين:
أولًا: طابعهما الاستثنائي؛ إذ تسببتا في صدمة كبيرة ليس فقط للأطراف المعنية مباشرة، بل أيضًا للمراقبين الخارجيين. أدت هذه الصدمة إلى حالة من "التجمّد" لدى البعض، تلتها حالة من "الذعر" السياسي.
ثانيًا: تجاوزت المبادرتان المستويات التدريجية الطبيعية للعمليات الدبلوماسية، ووصلتا مباشرة إلى قمم غير متوقعة من الحوار، بحيث لم يتبقَّ للآخرين ما يضيفونه.
وفي الوقت ذاته، مثّلت تلك المبادرات ما يمكن وصفه بـ"نقطة التشبع". وهذا بالضبط ما يحدث الآن في سوريا.
وإذا أردنا إضافة نقطة ثالثة فيمكن القول إن أزمة سوريا وحلب، وما يرتبط بها من تداعيات تشمل إيران، ودمشق، والتنظيات الإرهابية " بي كي كي/ واي بي جي" وجناحها الإيراني "PJAK"، قد خلقت حالة من الصدمة والذهول، أو لحظة من "الموت المفاجئ" ـ كما يصفها الخطاب الغربي ـ وخصوصًا في طهران. أما بالنسبة لروسيا، فإن موقفها يندرج في سياق مختلف يتطلب نقاشًا منفصلًا. إلى درجة أن المحور الإيراني-السوري، حتى لحظة كتابة هذه السطور، وفي اليوم الثامن من هذه التطورات، لم يتمكن بعد من استعادة توازنه، ويبدو أنه يحاول التماسك بشكل عشوائي وبطرق بدائية.
أما الدول التي تفاجأت دون أن تصاب بالذعر، فتشمل الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا والعراق. يمكن النظر على سبيل المثال إلى موقف لندن، حيث يمكن افتراض أنها قد أدركت تداعيات الأزمة بعد ظهور المؤشرات الأولى. كما يتضح من قيامها بشن عمليات عسكرية ضد تنظيم "بي كي كي" الإرهابي في أراضيها مؤخرًا.
التوقيت المثالي
تتفق الدول المعنية، سواء كانت من الشرق أو الغرب، صراحة أو ضمنًا، على وجود تأثير تركي في هذه العملية.
وقد أكدت أنقرة على أنه "في هذه المرحلة لا ينبغي البحث عن السبب في قوة خارجية"، حيث شدد وزير الخارجية، هاكان فيدان، على عدم وجود أي تدخل تركي. ورغم أن الدعوة "لا تبحثوا عن قوى خارجية" تشمل دولًا أخرى، إلا أن التركيز على هذا البحث يعني التهرب من القضية السورية.
وبغض النظر عن العقل المدبر لهذه العملية، يجب الاعتراف بأن هذه العملية تمت بتوقيت وتخطيط مثاليين.
هذه العملية حدثت في سياق تتابع العديد من الأحداث، من تطهير منطقة الزاب إلى اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، مرورًا بضعف قدرة روسيا على التدخل في المنطقة، وإغلاق العراق لحدوده، ووسط سياق الحرب في أوكرانيا ووصول ترامب إلى السلطة.
وبالتالي، يتضح أن من خطط لهذه العملية يتمتع بذكاء استثنائي.
هل تركيا متحالفة مع إسرائيل والولايات المتحدة؟
وليس الفاعلون الإقليميون والدوليون وحدهم من يرون أن تركيا هي وراء الأحداث الأخيرة، بل هناك أيضاً فئة داخل تركيا ترى أن أنقرة هي المحرك الرئيسي لهذه الأحداث. هؤلاء يتذرعون بـ "القلق والانزعاج" لتبرير اتهاماتهم الباطلة بأن تركيا تنسق مع واشنطن وتل أبيب في تنفيذ هذه الخطط. وتظهر هذه الاتهامات بوضوح في تصريحات إسرائيل والولايات المتحدة وإيران.
ولكن الحقيقة هي أن هدف تركيا الوحيد هو القضاء على الإرهاب بشكل كامل في المنطقة الحدودية الجنوبية. وهذا هو السبب الرئيسي لردها على الخطوات الإرهابية الرامية لربط تل رفعت ومنبج.
قد يستفيد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من هذه العملية على صعيد النتائج الثانوية أو القصيرة المدى، مثل تقويض نفوذ إيران في سوريا والعراق، ولكن هذا لا يعني أن تركيا تعمل لصالح هذه الدول. فتركيا لا تهتم بمصالح الدول الأخرى بقدر اهتمامها بالقضاء على التهديد الإرهابي الذي يواجهها. إن الإجابة على سؤال "من المستفيد من ذلك؟" ليست بتلك البساطة التي يطرحها البعض في ما يتعلق بالخونة والعملاء. لن نحمل أعباءً سخيفة لمجرد أن تقدم المعارضة شيئًا لنا في السياق السياسي.
الهدف الرئيسي لتركيا هو القضاء على تنظيم " بي كي كي" الإرهابي وامتدادته "واي بي جي" و "PJAK"، وإخراج كل من يدعمهم من المعادلة. فكيف يمكن تكييف هذا الهدف مع التعاون مع أمريكا أو إسرائيل!
ومن غير المنطقي القول إن تركيا لم تكن على علم بزيادة نشاط هيئة تحرير الشام. من المؤكد أن تركيا كانت على دراية بهذه التطورات، ولكنها اختارت عدم التدخل، وإلا لواجهت انتقادات بالإهمال والتقصير.
الاستعداد لترامب
مع تولي ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض، أصبحت الفرضية القائلة بانسحاب الوجود الأمريكي من المنطقة ـ رغم قابليتها للنقاش ـ وسيلة لتفسير حالة الفوضى والاضطراب التي تشهدها المنطقة.
ومثل العديد من الدول الأخرى، تستعد تركيا لإمكانية حدوث تغييرات في سياسات الولايات المتحدة تحت الإدارة الجديدة، مستندة في ذلك إلى سياسات ترامب السابقة وخطاباته في ولايته الأولى. وعليه، فإن قيام أنقرة بتجديد مواقفها تجاه العراق وسوريا ضمن هذا السياق أمر طبيعي.
ولا يخفى أن تركيا لديها شكاوى من روسيا وإيران. فعلى الرغم من المبادرات تجاه تطبيع العلاقات مع سوريا، فإن تردد موسكو، ومماطلة طهران، بالإضافة إلى تجاهل دمشق لليد التركية الممدودة، وغياب أي نتائج ملموسة لعملية أستانا، إلى جانب تجاهل التحذيرات والدعوات التركية المتكررة، كلها تزيد من قائمة الشكاوى التركية. (رغم ذلك، فإن دعوة التطبيع لم تتوقف لكنها بالتأكيد باتت تأخذ أشكالًا مختلفة).
إيران ودمشق تلقتا رسالة تمهيدية
خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بنظيره التركي هاكان فيدان، يوم الاثنين، شددت طهران وبإصرار ملحوظ، على أن ما يجري هو "لعبة أمريكية-إسرائيلية"، وهو خطاب يعكس العداء التقليدي الإيراني تجاه هذين الطرفين. ومع ذلك، يعمّق هذا التصريح الانطباع بوجود دور تركي في الأحداث الجارية.
من جهة أخرى، ركز الوزير فيدان على ذكر تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي وأصر على إضافة تنظيم "PJAK" إلى القائمة بينما اكتفى عبد اللهيان بالإشارة إلى "التنظيمات الإرهابية التكفيرية وغيرها"، مما يمكن اعتباره إشارة ضمنية إلى تنظيم "بي كي كي" الإرهابي. وأيد عراقجي فكرة "التصفية الكاملة" لهذه التنظيمات. وجاء تصريح تركيا بأنها "لا تريد إضاعة المزيد من الوقت" كرسالة يجب على إيران أخذها على محمل الجد. فعلى إيران أن تتوقع تكرار سيناريو حلب في مناطق أخرى من سوريا والعراق وربما حتى داخل أراضيها. ودمشق كذلك شعرت بالخطر ذاته. هذه هي الرسالة الواضحة.
من الجدير بالذكر أن الصين، كقوة عظمى أخرى، بدأت بالتحرك. فقد زار نائب وزير الخارجية الصيني طهران، وأعلنت المتحدثة باسم الخارجية الصينية دعم بلادها لدمشق، وهو ما أكده السفير الصيني لدى سوريا أيضًا.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة