رغم مرور أكثر من 3 عقود على اغتيال الرئيس الباكستاني الأسبق الجنرال محمد ضياء الحق، في تحطم طائرة، إلا أن الغموض لا يزال يحدق بملف تغيب عنه الحقائق وتلفه معطيات متشابكة.
حادث وقع في 17 أغسطس/ آب 1988، قرب مدينة باهاوالبور الباكستانية، على بعد 531 كلم جنوب العاصمة إسلام آباد، ليسدل الستار على حياة وحكم ضياء الحق (حكم من 1978 إلى 1988)، إضافة إلى مقتل السفير الأمريكي بباكستان حينها أرنولد لويس رافيل، وعدد من كبار المسؤولين العسكريين الباكستانيين.
وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، اعتقد الكثير من الناس بأن المتفجرات كانت مخبأة في "صندوق مانجو" على متن الطائرة، فيما نفت السلطات الباكستانية والأمريكية ذلك مرارا ووصفته بأنه مجرد حادث.
واليوم، وبعد مرور 32 عاما، يقول نجل ضياء الحق، محمد إعجاز الحق، الوزير الفيدرالي الباكستاني السابق، إنه جمع أدلة تؤكد أن الطائرة سقطت بسبب رش غاز الأعصاب في قمرة القيادة، ما شلّ حركة الطيارين.
كما أكد وجود متفجرات في صناديق المانجو، إضافة لقذيفة ضربت أيضا الطائرة.
** الأناضول: كيف تصف والدك وهل كانت العائلة أحد محاور حياته الرئيسية؟
والدي معروف من قبل الناس بتواضعه ولطفه وكرمه. كان أبا ودودا جدا، وكان أخا أكثر منه أبا، ويؤسفني أنني لم أتمكن من قضاء الكثير من الوقت الذي أردت أن أكون معه. بقيت في الخارج للدراسة ثم العمل في لندن ودبلن والبحرين. كنا نتحدث كل يوم أو على الأقل ثلاث إلى أربع مرات في الأسبوع على الهاتف. لكني لم أتمكن من قضاء الوقت الذي قضاه إخوتي وأخواتي معه.
** متى كانت آخر مرة قابلته فيها؟
التقيت به آخر مرة في 29 مايو/ آيار 1988، أي قبل ثلاثة أشهر من وفاته المأساوية. كنت في كندا مع عائلتي عندما سمعت الأخبار. لقد كان الأمر صادماً.
**يجب أن تكون قد تابعت القضية. كيف تحطمت هذه الطائرة؟ هل كان حادثاً أم أمرا آخر؟
عندما وقع الحادث، حاولنا متابعة القضية قدر الإمكان، لكن التستر كان قويا جدا ويكتنفها الغموض من داخل وخارج البلاد، فلم نتمكن من الوصول إلى الحقيقة.
أمر واحد كان واضحا، وهو أنه بعد التحقيق المشترك بين الولايات المتحدة والقوات الجوية الباكستانية، حاول الأمريكيون بكل جهدهم، منذ البداية، إثبات أنه كان مجرد حادث.
وصدرت حوالي 34-35 صفحة من ذلك التقرير، وأعلن الرئيس الباكستاني غلام إسحاق خان، الذي تولى منصبه بعد والدي، في تلك الأيام، وأكد ذلك التقرير أنه لم يكن حادثا بل تخريبا، ولذلك بدأنا بالبحث في الأمر، وكان أحد أعضاء فريق القوات الجوية الباكستانية الذي يحقق في هذه القضية محقق بارز بالقوات الجوية وهو ما يعادل عميداً في الجيش، يدعى زهير الزيدي.
"الزيدي"، أخذ أجزاء من الطائرة دون أن يخبر أي شخص إلى المختبر الأعلى في باكستان، وكان قريبه رئيس المختبر في ذلك الوقت، حتى تمكن بهدوء من الحصول على التحليل الكيميائي للحطام والمحتويات مثل قشور المانجو وكل ما يمكنه الحصول عليه، وأثبت تقريره أنه عمل إجرامي، إذ تم العثور على الكثير من الفوسفور الأنتيموني، وغيره من المواد؛ ما يعني أن هناك شيئا خاطئا وبعض التخريب. ثم عرفنا أيضا أنه لم يكن انفجارا فقط.
وحسب الزيدي، هناك عدة أعمال لضمان نجاح المهمة، كان هناك غاز الأعصاب تم الاحتفاظ به في قمرة القيادة للطائرة لدرجة تشل الطيارين، وواحدة من النظريات التي توصلنا إليها هو أن الغاز كان سببا في أن الطائرة صعدت وانخفضت قبل أن ترتطم بالأرض، بسبب إصابة الطيارين بالشلل، فلم يتمكنوا من السيطرة على الطائرة.. كانوا يرتجفون. إنه مثل عندما تذبح حيوان ويحاول القيام ببعض الحركات من هذا القبيل.
ويقال إن الغاز كان محفوظا في إحدى الجوائز التي أعطيت لوالدي، أخذوها واحتفظوا بها في قمرة القيادة.
** من الذي منح هذه الجوائز؟
بعض الضباط هناك ممن كانوا جزءا من المهمة، وظهر الزيدي، وسجل أقواله أمام إحدى اللجان القضائية، وهي لجنة شفيقور رهمان، ولكن تقرير تلك اللجنة لم يصدر قط. وكانت هناك ثلاث لجان شكلتها الحكومة الباكستانية: الأولى لجنة بانديال، التي شكلتها حكومة حزب الشعب آنذاك عندما أصبحت بنظير بوتو، رئيسة للوزراء، ولم يكونوا مهتمين أبدا بمعرفة الحقيقة.
** لماذا لم يكونوا مهتمين بالوصول إلى الحقيقة؟ وهل كان انتقاما سياسيا؟
كان هناك تعاون، والعديد من الجهات الفاعلة المعنية قامت بدورها دون أن تعرف ما يفعله الشخص الآخر، وحتى دون التعاون فيما بينها. لم يرغب والدي أبدا في حضور هذه المهمة لأنه كقائد للجيش ورئيس للبلاد لم يكن من المفروض حضوره شخصيا، أي جنرال تابع لقيادة الجيش أو رئيس هيئة الأركان العامة أو ربما رئيس التدريب كان يمكن أن يذهب إلى هناك، فلماذا الرئيس؟
جرى إقناعه بواسطة أحد كبار الضباط المقربين منه، وطلب منه مرارا وتكرارا. اتصل بمنزلنا 16 مرة وفق السجل الذي كان لدينا في دار الجيش. كان يطلب من والدي أن يأتي ويحضر الحفل ويلعبا الغولف معا، وطلب منه مرارا أن يأتي ويبقى معه كضيف في ملتان (مدينة جنوبي إقليم البنجاب الباكستاني).
** من كان هذا الضابط؟
كان الجنرال محمود علي دوراني، وكان ملحقا عسكريا في البعثة الباكستانية في واشنطن عندما كان عميدا، ثم أصبح السكرتير العسكري لوالدي لما يقرب من سنتين إلى ثلاث سنوات، قبل أن يذهب لقيادة فرقة مدرعة في ملتان. وبما أن هذا التمرين كان تحت قيادة ملتان، فقد كان مسؤولا عنه.
كان هناك العديد من التستر. أحدهما هو أن تشريح الجثث تم إيقافه بأمر من جهة عليا.
** هل تعني أنه لم يتم تشريح الجثة؟
نعم، لم يتم تشريح الجثة، وكان من المفترض أن تذهب أجزاء الجثة إلى مختبر في لاهور (عاصمة إقليم البنجاب)، ليتم تحليلها، ولكن في اللحظة الأخيرة، قيل لهم ألا يفعلوا ذلك. وقد تم تشريح جثة العميد روبرت ووسوم، الذي كان الملحق العسكري في البعثة الأمريكية فقط، وتم تشريح جثته لأنه كان من المفروض أن تعود إلى الولايات المتحدة.
ورغم أن المستشفى العسكري في ملتان، استعد حينها لتشريح جميع الأشخاص الـ29 الذين لقوا مصرعهم في الحادث، إلا أنه قيل لهم ألا يمضوا قدما، والأوامر جاءت من جهة عليا، وتم بعد ذلك نقل هؤلاء الضباط والأطباء العاملين في ذلك المستشفى إلى مناطق نائية في باكستان.
وتعرض الزيدي، الذي كتب تقريراً من 100 صفحة، للمضايقة. وتوفي في وقت لاحق.
** هل كانت وفاة طبيعية؟
مات موتة طبيعية لكنه كان مطاردا ومهددا، كان يخبرنا، أنه كان محترفا ومحققا رفيع المستوى في باكستان. تم طرده من القوات الجوية، ثم لم يُسمح له بالقيام بأي عمل، حتى أصبح أحد زملائه رئيس هيئة الطيران المدني في باكستان. فقام بتوظيفه كمحقق لبعض الوقت ما عدا ذلك، عاش حياة بائسة جدا.
أعطاني "الزيدي"، وثيقة مقسمة إلى 100 صفحة مكتوبة بيده، كما أعطاني بعض الأشياء الأخرى، وقال إنه يحتفظ ببعض التقارير خارج باكستان. وقال لهؤلاء الأشخاص الذين كان يحفظ الوثائق معهم أن ينشروها إذا حدث له مكروه. ولم يعطنا تلك الوثائق.
لكن التقرير المكون من 100 صفحة، والذي أعده معي سأنشره في كتابي المقبل إن شاء الله. أيضا، جانب آخر مهم جدا هو أننا كنا قررنا مقاضاة لوكهيد، وهي الشركة التي تصنع الطائرات (سي 130) بينها التي تحطمت.
** تلك الطائرة لديها 4 محركات، في حالة فشل ثلاث محركات، فيمكن لمحرك واحد إتمام العمل، أليس كذلك؟
حتى في حالة فشل جميع المحركات لديها القدرة على الانزلاق. لن تتحطم فهي طائرة قوية جدا، وعند فتح الظهر، يمكنك أن تقحم الدبابات فيها، ولذلك قررنا مقاضاة هذه الشركة ودفع تعويض مليار دولار، بسبب زعمهم أنه كان خطأ فنيا. أردنا أن نثبت أنه لم يكن خطأ فنيا.
وإذا كان كذلك، فسيكونون بحاجة إلى دفع المال لنا. أردناهم أن يقولوا إنه لم يكن خطأ فنياً، بل تخريباً، ولذلك قمنا بتعيين محام أمريكي بارز في نيويورك. كان متحمساً جداً في البداية وهتف أنه حصل على قضية القرن. حتى أنه ذهب حد السماح لنا بعقد مؤتمر صحفي على حسابه، وبعد أيام قليلة من الإعلان تضاءلت معنوياته.
عندما التقيت به، قال إن رئيس هيئة الطيران المدني في الولايات المتحدة دعاه لتناول الغداء. وبعد ذلك بوقت قصير، لم يتصل بنا ولم يستجب لمكالماتنا.
وبالمثل، تواصلنا مع روبن رافيل، زوجة السفير الأمريكي المتوفى أرنولد لويس رافيل، لكنها لم تتصل بنا في وقت لاحق. لم تتحدث عن هذا أبدا. أرادت الولايات المتحدة تعويضها بجعلها سفيرة.
شيء آخر أذكره ولم يدحضه أحد حتى الآن هو أنه كان هناك ضابط في القوات الجوية محتجزا في باكستان بتهمة التجسس. كان اسمه أكرم عوان. وسُجن لفترة طويلة ثم أُطلق سراحه. لكن دعوني أخبركم بالقصة القصيرة عن عوان، الذي اعتقل بتهمة التجسس في مايو/ أيار 1988. ووقع الحادث في أغسطس/آب، بعد ثلاثة أشهر، وكان على اتصال مع وكالة الاستخبارات الهندية والموساد (وكالة الاستخبارات الإسرائيلية).
آمل أن تكونوا سمعتم قصة أن الإسرائيليين حاولوا في عام 1986 قصف كاهوتا (بلدة قرب إسلام أباد، حيث توجد مختبرات كاهوتا للأبحاث النووية)، غير أنهم لم يتمكنوا من تنفيذ المهمة.
لكنه كان مخططا له وكان التخطيط في مرحلة متقدمة لدرجة أنه عندما علمت باكستان، حلقت مقاتلاتنا في الجو 24 ساعة (دوريات جوية مستمرة)، وعوان، هو الشخص الذي كان مع الإسرائيليين على متن الطائرة ويوجههم إلى كاهوتا.
يتبع//