تُقسم حياة الإنسان عموماً إلى ثلاث مراحل: الطفولة، الشباب، والشيخوخة. فالطفل لا يتحكم بطفولته؛ إذ إن من يستطيع ذلك لا يُعد طفلاً في الأساس. ومع ذلك، يظهر بعض الأطفال نضجاً استثنائياً في سن مبكرة يدهش الجميع، ويُطلق عليهم لقب "كبير في جسد صغير". إلا أن هذا النوع من الطفولة نادر، حيث تخضع حياة معظم الأطفال لإدارة البالغين، خاصة الوالدين.
في مرحلة الشباب، يُمنح الفرد حق إدارة ذاته، فالنضج يهدف إلى تحقيق هذا الغرض. لكن نجد أن غالبية الشباب ينشغلون عن الاهتمام بأنفسهم، ويصبون اهتمامهم على كل ما يحيط بهم. وتُعد مرحلة الشباب، التي تتفجر فيها العواطف، من أصعب المراحل في إدارتها. في الواقع، قلما يزعم الشباب القدرة على ضبط هذه المرحلة بالكامل، بل إن كثيراً منهم، خصوصاً في عصرنا الحالي، لا يسعى إلى فرض السيطرة على حياته أو أن يكون خاضعاً لأي سيطرة. ربما لا يتفق الجميع معي، لكنني أرى أن علينا محاولة فهم سلوكيات الشباب وردود أفعالهم، ما داموا لا يرتكبون جرائم أو يلحقون أضراراً دائمة بأنفسهم أو بالآخرين.
من المتوقع أن تكون مرحلة الشيخوخة هي الفترة التي يتمكن فيها الإنسان من إدارة حياته بأكبر قدر من الراحة. وبقدر ما، هذا صحيح؛ فالشخص المسن يمتلك أعلى مستويات المعرفة والخبرة، مما يجعله أكثر قدرة على إدارة شؤونه بكفاءة. بعد مرحلة الطفولة التي يعجز فيها الفرد عن إدارة حياته، ومرحلة الشباب التي يقاوم فيها كل أشكال التوجيه، تأتي مرحلة الشيخوخة التي يُعتقد أن الإنسان فيها يستطيع أخيراً إدارة نفسه بشكل مستقل.
في المجتمعات التقليدية خاصةً، هناك العديد من كبار السن الذين يجسدون هذا الدور ببراعة. في شبابي، لم يكن أقراني هم من شدوا انتباهي، بل كبار السن. أستذكر أياماً كنت أزور فيها اثنين أو ثلاثة من أصدقائي المسنين في اليوم ذاته. تعرفت على كثيرين ممن تميزت حركاتهم بالهدوء، وأفكارهم بالاتزان، وسلوكهم بالحكمة. والحق أنني تعلمت شيئاً قيّماً من كل واحد منهم.
في وقتٍ ما، كنت أنظر إلى كبار السن من الحكماء، معتقداً أن عددهم ليس بالقليل، وأن التقدم في العمر يجلب الحكمة تلقائياً. لكن بمرور الوقت، أدركت أنني كنت مخطئاً؛ فقد أصبح النضج والحكمة "خارج الموضة" ثقافياً. في الماضي، كان الناس يتطلعون إلى التقدم في السن (وربما كان في هذا شيء من المبالغة)، بينما اليوم يسود التمرد على الشيخوخة الجسدية والإصرار على البقاء شباباً. ويدور هذا الصراع على جبهتين: الأولى، مقاومة تأثيرات الشيخوخة الجسدية، والثانية، مواجهة تحدياتها النفسية. تُخاض الجبهة الأولى في مجالات الطب التجميلي والموضة، بينما تُخاض الثانية في عالم كتب التنمية الذاتية الرخيصة، ومعسكرات اليوغا، ودورات التصوف ونحوها.
تبلغ المخاوف الأساسية لدى المتقدمين في السن ذروتها في مفهوم لم أتمكن بعد من فهمه تماماً: "الشيخوخة بجودة عالية". ويضاف إلى ذلك شعارات مثل "حفظ الطفل الداخلي"، و"حب الذات وتدليلها". في الحقيقة، يبدو أن هناك رغبة في إزالة صفة الشيخوخة والعيش دون الاعتراف بوجودها. من العبارات التي أثارت اهتمامي هي "التقدم في العمر دون الشيخوخة"، وكأنها دعوة لاستحضار الشباب رغم دوران عداد العمر. تُرى، هل كان الفنان جم كاراجا، الذي كان يحيّي جمهوره قائلاً "يا شباب ومن يبقون شباباً دائماً" عند صعوده المسرح أو مغادرته، هو من أطلق هذا الاتجاه؟
هذا الأمر يُظهر لي أن الشيخوخة لا يمكن إدارتها بالمعنى التقليدي؛ إذ إن إدارتها تتطلب تقبّلها والعيش بها بسلام، لا إقصاءها أو الهروب منها. فالشيخوخة التي لا تُحتضن تتحول إلى مرحلة أشد إشكالية من الشباب، وأبعد عن الأصالة من الطفولة الحقيقية. لا يمكن الانتصار في المعركة الجسدية مهما حاولنا؛ فالتدخلات التجميلية والجراحات لن تمنع هذا الواقع. إن الشيخوخة التي تملؤها رغبة جامحة في استعادة الشباب لا يمكن إدارتها ولا الاستمرار بها طويلاً. وإذا أضفنا إليها إثارة الطفل بداخلنا، تصبح الصورة أكثر تعقيداً؛ فالطفولة والشباب قد ولّيا، لكن رموزهما تُعاد وتنعكس بشكل غير ملائم على أرضية الشيخوخة، لتنتج مزيجاً غريباً ليس طفولةً ولا شباباً ولا شيخوخةً حقيقية.
في الآونة الأخيرة، بدأت أعتقد أن الشيخوخة غير المدارة أشد وطأة من الطفولة أو الشباب غير المداريْن. أرى تجليات مختلفة لهذا الأمر؛ فالطفولة التي تطغى عليها السلوكيات الخام تكون مفهومة في ذاتها، ويقال إن الشباب هو المرحلة التي تصقل تلك الخامية. وأما تعويض تلك الحيوية الخام فهو في حكمة الشيخوخة. لكن لا يوجد تعويض للشيخوخة الخام وغير المُحتضنة، على الأقل في هذا العالم. يمكنك توجيه الطفل، ويمكنك نصح الشاب وإرشاده، لكن كيف يمكن التعامل مع مسن لم يدرك نضجه؟ أرى اليوم بعض كبار السن ممن يحاولون إخفاء آثار الشيخوخة جسدياً، بينما ملامح الكبر ظاهرة بوضوح، ومع ذلك يتوهمون أنهم شباب ويتصرفون بأنانية ودلال، مدفوعين برغبة في إبقاء "الطفل الداخلي" حيّاً.
إن هؤلاء يخونون شيخوختهم ويقطعون السلسلة، متخلين عن مسؤولياتهم الأساسية في نقل الثقافة والخبرة للأجيال الجديدة، وضمان استمرارية الإرث الإنساني.
الأنانية تبدو قبيحة على الإنسان، ولم أجد شخصاً واحداً تليق به. بالنسبة لي، فإن الشخص المسن الذي لم يتعلم كيف يدير ذاته ويعرف حدوده يصبح من أكثر الناس ثقلاً على النفس.
الأنانية لا يمكن أن تجد لها موطناً في نفس شخص يعرف ذاته. عبارة "اعرف نفسك" محفورة عند مدخل الحكمة؛ فمن يعرف نفسه يستطيع أن يقيّم ذاته من منظور الآخرين أيضاً. وهنا تكمن قدرة الإنسان على إدارة نفسه؛ فالإنسان العارف بذاته يبتعد عن المبالغات ويخفف من ثقل حضوره. هذا التخفيف يجعله أقل عبئاً ومصدراً للإزعاج في حياة الآخرين.
العالم مليء بكبار السن الذين يضخمون قصصهم الشخصية ويزيدون من عبئها، بل ويُغرقون بها من حولهم عبر وسائل الإعلام الحديثة. هؤلاء الأشخاص، الذين لا يستمعون لأحد، ويجعلون حديثهم محوره ذاتهم، ويعبدون ذواتهم وينتظرون من الآخرين أن يقدّسوها، يظلمون حياة من حولهم.
الشيخوخة فنٌ صعب، وكل التقدير لمن يتقن فن التعامل معها.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة