تشكل التطورات الأخيرة في سوريا والقضية الكردية ومعادلة الشرق الأوسط على مدار الأشهر القليلة الماضية مشهدًا مثيرا للاهتمام حول الفجوة بين التخطيط البشري وما يحدث على أرض الواقع. إن جانبًا من هذا المشهد يدعو للتأمل والاعتبار، بينما يكشف الجانب الآخر عن مدى انفصال الإرادة البشرية عن الأحداث الاجتماعية الكبرى أحيانًا.
وعندما نقول إن الإرادة البشرية منفصلة، فإننا نعني أننا نشهد كيف يمكن لبعض الفاعلين، الذين نعتبرهم أبطال المسرح العالمي، قد يجدون أنفسهم في دور الكومبارس، بل وربما خارج المسرح تمامًا. فهناك حالات تُستبعد فيها السيناريوهات التي تنبأ بها المحللون السياسيون وعلماء الاجتماع وحتى بعض السياسيين بإرادتهم، ليحل محلها سيناريو جديد غير متوقع. وهذا في الواقع أحد الدروس الأولى التي يتعلمها علماء الاجتماع؛ "الحياة لا يمكن أن تُحصر في أي نظرية." ففي كثير من الأحيان، تنساب الحياة بعيدًا عن السيناريوهات النظرية المصممة بعناية. وعندها لا بد من اللحاق بها وعدم التخلف عن ركبها.
وفيما يتعلق بالأحداث التي تشهدها سوريا منذ 27 نوفمبر، لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه كان مستعدًا لها، أو أنه توقع حدوثها مسبقًا. وكما أشرنا في مقالات سابقة، فإن جميع الأطراف كانت تبني سيناريوهاتها المستقبلية المتعلقة بالشرق الأوسط بما في ذلك سوريا، على أساس وجود نظام الأسد في صورة يكون فيها قد استعاد كامل قوته. وحتى في القمة المشتركة بين منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية، عندما ألقى الأسد خطابًا وقحًا يدين فيه إسرائيل بارتكابها الإبادة الجماعية واعتدائها على حقوق الإنسان، كانت معظم الدول العربية والدول الأوربية باستثناء قلة قليلة تستعد لإعادة فتح سفاراتها في دمشق.
وبالنسبة لإسرائيل كان الأسد دائمًا الخيار المفضل كجار مقارنة بأي بديل آخر. فسوريا في عهد الأسد كانت ضمن نطاق نفوذ إسرائيل. ولهذا السبب عندما فر الأسد من سوريا، بادرت إسرائيل إلى تدمير جميع المواقع العسكرية في سوريا، لأن إسرائيل كانت بمأمن من هذه الأسلحة في عهد الأسد.
أما الآن، وبعد الثورة السورية التي بدأت في 27 نوفمبر وانتهت في 8 ديسمبر، نحن أمام واقع جديد تمامًا وعالم مختلف كليًا. وفي هذا السياق، وبينما يقوم الجميع بحساب المكاسب والخسائر، تشير جميع المعطيات الموضوعية إلى أن تركيا كانت الرابح الأكبر في هذه العملية.
أكبر مكسب حققته تركيا هو في الواقع إغلاق أبواب الخسائر التي كانت تتعرض لها حتى الآن. فموقف تركيا الواضح بشأن سوريا والذي يتماشى مع مواقف الدول الأخرى، هو دعم استقلال سوريا وسلامة أراضيها وشعبها. ليس لدى تركيا أي أطماع في الأراضي السورية. إن وجود سوريا مستقرة تُدار من قِبل شعبها بما يحقق رفاهيته واستقراره ومصالحه يمثل مكسبًا كبيرًا لتركيا بحد ذاته. أما النظام السابق في سوريا فلم يهتم أبدًا بسلامة شعبه واستقراره ورخائه، بل سلم أراضي البلاد للأجانب، مما أدى إلى اضطرابات أثرت سلبًا على تركيا بشكل كبير. إن زوال هذه العوامل السلبية هو كل ما تطمح إليه تركيا. فالدولتان الشقيقتان والجارتان قادرتان على تقوية بعضهما البعض وتعزيز مصالحهما المتبادلة دون الحاجة إلى التحيز.
بعد أحداث 8 ديسمبر دخلت المنطقة والعالم مرحلة جديدة بالكامل. وفي تركيا نشهد الآن تطورات جديدة أبرزها المبادرة الجريئة التي أطلقها دولت بهجلي، أمام حزب "DEM" في البرلمان التركي، حيث دعا عبد الله أوجلان إلى أن يوجه نداء إلى تنظيم"بي كي كي" الإرهابي ليلقي السلاح. ويمكن القول إنه من غير المنطقي أن يستجيب تنظيم"بي كي كي" لمثل هذا النداء من أوجلان وأن يحل نفسه، خاصة في ظل الدعم المالي والسياسي الذي يتلقاه من قوى عالمية كبرى، مثل الولايات المتحدة التي تمنحه أدوارًا وهمية.
ولكن المثير للاهتمام أنه بعد التصريح الذي أدلى به بهجلي في 22 أكتوبر، وقعت ثورة 8 ديسمبر التي غيرت المشهد في سوريا بشكل جذري لصالح تركيا وضد تنظيم "بي كي كي" الإرهابي وحلفائه. وبعد هذه اللحظة، لن يكون من السهل على الولايات المتحدة أن تقدم الدعم لتنظيم "بي كي كي" بحجة محاربة تهديد داعش كما كانت تفعل سابقًا بكل بساطة. فلم يكن لدى الولايات المتحدة أي شرعية أصلاً، وكان وجودها العسكري في سوريا مستندًا إلى الاتفاقيات التي أبرمتها مع النظام السوري المتمثل في نظام البعث حينها. ولكن بعد هذا التطور، فإن حجة "محاربة الإرهاب" ستصبح ذريعة واهية لا مبرر لها، ما يجعل شرعية الوجود الأمريكي في سوريا غير قابلة للدفاع عنها، خصوصًا في ظل نجاح النظام الحالي في استعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية باسم الحكومة الجديدة، باستثناء المناطق التي تخضع لسيطرة الولايات المتحدة.
وفي ظل هذه المعطيات، لم يعد للولايات المتحدة أي مجال لتثبيت موطئ قدم لها داخل هذه المعادلة، لا سيما وأن الرئيس المنتخب دونالد ترامب، الذي سيباشر مهامه في 20 يناير، قد أعلن نيته الواضحة بالانسحاب من سوريا. غير أن بعض القوى العميقة في الولايات المتحدة نظمت هجمات داعش، التي باتت تتهاوى من جميع الأطراف، كعمل تخريبي ضد نوايا ترامب هذه. ولا يمكن القول إن ترامب كان ساذجاً لدرجة أنه لا يدرك توقيت هذه الهجمات وسوء تدبيرها. هناك احتمال أن تخيفه الرسائل التهديدية التي تحملها تلك العمليات وتدفعه للتراجع، إلا أن ذلك غير مرجح بالنسبة لشخصية مثل ترامب. وبالتالي فإن فرص الولايات المتحدة في مواصلة دعمها وحمايتها لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي داخل سوريا تتضاءل تدريجياً.
وخلال عملية الحل التي أطلقتها تركيا منذ سنوات لحل مشكلة الإرهاب، تلقينا من أوجلان الرسالة التي كنا ننتظرها. كانت العملية تسير تمامًا كما هو متوقع، متجهة نحو مرحلة يسلم فيها تنظيم "بي كي كي" الإرهابي السلاح، ولكن التطورات في سوريا، التي شغلت عقل قيادة تنظيم "بي كي كي" والعرض غير الأخلاقي الذي قدمته الولايات المتحدة في سياق هذه التطورات، أفسدت المسار. وفي عملية كان الرئيس أردوغان قد دخلها رغم المخاطرة الشديدة، أصبح تنظيم "بي كي كي" أداة للإمبريالية في المنطقة بسبب قبوله عرض الولايات المتحدة، مما أدى إلى فصل الطرق بينه وبين الشعب السوري المظلوم وكذلك الشعب التركي. كان هذا الطريق مغريًا جدًا بالنسبة له، واستمر حتى الثورة التي نشأت في 8 ديسمبر بشكل غير متوقع. وحتى في تلك اللحظة كان عرض حزب الحركة القومية (بهجلي) بمثابة فرصة، ولكنهم لم يهتموا به على الإطلاق.
أما الآن، فقد تغيرت الأمور بشكل جذري. ففي سوريا وبعد 12 عامًا من التحضير المشترك بين الولايات المتحدة ونظام البعث، لم يعد هناك ما يضمن أي مستقبل مشرف وسلمي للتنظيم، بل يجعله وحيدا يواجه عار التعاون مع الإمبريالية الصهيونية في نظر شعوب المنطقة. كان عرض باهجلي الذي تبناه تحالف الجمهور، يقدم لتنظيم "بي كي كي" الإرهابي فرصة للخروج من هذه العلاقة القذرة، لكن في ظل التغيرات الحالية، أصبح هذا العرض بمثابة فرصة للنجاة من كارثة مؤكدة.
إن النظام الجديد الذي يُبنى في سوريا لا يميز بين الأكراد والعرب والتركمان، بل ينظر إلى الشعب السوري ككل، ويقدم فرصة مشاركة عادلة ومتساوية تعترف بالاختلافات والحقوق. ولا ينبغي للتنظيم أن يضيع فرصة المشاركة هذه ويقع في جشع المطالبة بامتيازات غير عادلة اعتمادًا على الدعم الأمريكي الذي لن يدوم إلى الأبد. ولكن هل سيكون هناك طرف مستعد لتقييم هذه المنطق ويتخذ قرارًا مستقلًا بإرادته؟
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة