يني شفق

رحلة بين قبور لبنان

06:4926/03/2025, الأربعاء
تحديث: 26/03/2025, الأربعاء
طه كلينتش

عندما تسنح لي الفرصة لزيارة أي مكان في العالم الإسلامي، أحرص على تخصيص وقت لزيارة المقابر. ففي بعض الأحيان، يحمل تفصيل واحد على شاهد قبر معاني عميقة تجعلني أجد صعوبة في الابتعاد. وغالباً ما تكشف الرحلة التي دفعت بالأموات ليرقدوا تحت الثرى عن قصص كبيرة تتشابك فيها الأحداث وتتضح بجمع أجزائها كقطع الأحجية. في رحلتي إلى لبنان الأسبوع الماضي، والتي ابتدأت من الخميس إلى السبت (20-22 مارس)، رسمت مسارًا خاصًا لزيارة المقابر. وبعد أن زرنا العديد من الأشخاص الذين عاشوا حياة مختلفة، وسلكوا مسارات مغايرة، وواجهوا

عندما تسنح لي الفرصة لزيارة أي مكان في العالم الإسلامي، أحرص على تخصيص وقت لزيارة المقابر. ففي بعض الأحيان، يحمل تفصيل واحد على شاهد قبر معاني عميقة تجعلني أجد صعوبة في الابتعاد. وغالباً ما تكشف الرحلة التي دفعت بالأموات ليرقدوا تحت الثرى عن قصص كبيرة تتشابك فيها الأحداث وتتضح بجمع أجزائها كقطع الأحجية.

في رحلتي إلى لبنان الأسبوع الماضي، والتي ابتدأت من الخميس إلى السبت (20-22 مارس)، رسمت مسارًا خاصًا لزيارة المقابر. وبعد أن زرنا العديد من الأشخاص الذين عاشوا حياة مختلفة، وسلكوا مسارات مغايرة، وواجهوا مصائر مختلفة، عدت إلى إسطنبول أحمل في جعبتي معلومات جديدة تمامًا. وأود أن أشارككم ملاحظاتي في هذه الرحلة لتكون مصدر إلهام ودليلا لمن يرغب في اتباع مسار مشابه:

صباح يوم الخميس، وصلنا إلى بيروت تحت الأمطار الغزيرة، وكانت أول محطة لنا قرية شويفات الواقعة في الركن الجنوبي الشرقي من المطار. عبرنا أحياء الدروز صعوداً عبر الطرق المتعرجة حتى بلغنا قبةً عاجية اللون. وتحت القبة المشيدة بعناية كان الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) وعادل أرسلان (1880-1954) يرقدان جنبًا إلى جنب. وقد تحدثت بالتفصيل عن الأمير شكيب في مقالي السابق، أما عادل أرسلان فقد كان أميرًا درزيًا موالياً للدولة العثمانية وكان أحد الأسماء البارزة في النظام الإداري اللبناني حتى سقوط الدولة العثمانية.

وانتقلنا من الشويفات إلى منطقة الأوزاعي، التي تقع شمال المطار مباشرة، بالقرب من البحر. وسميت هذه المنطقة على اسم أبي عمرو عبد الرحمن الأوزاعي (707-774)، وهو أحد أئمة المجتهدين الذين أسسوا مذهبًا مستقلاً في التاريخ الإسلامي. ويقال إنه قبل اعتماد المذاهب الفقهية الأربعة، كان أهل بلاد الشام يتبعون مذهب الأوزاعي بشكل خاص. وعند ضريح الإمام الأوزاعي، قرأنا الفاتحة على روح مفتي لبنان الشيخ حسن خالد (1921-1989)، الذي استشهد في عملية اغتيال دبرتها المخابرات السورية خلال الحرب الأهلية. لقد اغتيل الشيخ حسن خالد لمعارضته تدخل سوريا وإيران في لبنان.

وفي الجزء المحاذي للطريق الرئيس بالقرب من ضريح الإمام الأوزاعي، وجدنا قبر رياض بك الصلح (1894-1951)، أحد مؤسسي لبنان الحديث. قُتل رياض الصلح في عمان في 17 يوليو 1951 على يد أنصار الزعيم الاشتراكي أنطون سعادة بعد أن أصدر أمرًا بقتله، وذلك أثناء زيارة رسمية له إلى العاصمة الأردنية عمان. وبعد ثلاثة أيام، قُتل الملك عبدالله ملك الأردن في المسجد الأقصى على يد فلسطيني.

ثم تابعنا سيرنا شمالًا حتى وصلنا إلى مقبرة الشهداء في مخيمات صبرا وشاتيلا. وكان مقصدنا هناك القسم المخصص للشهداء الفلسطينيين. وقد ضم هذا القسم فلسطينيين من مختلف الأيديولوجيات والتوجهات العالمية، من الماركسي غسان كنفاني (1936-1972) إلى الإسلامي الحاج أمين الحسيني (1897-1974). كما ضمت المقبرة أسماء حديثة مثل صالح العاروري (1966-2024)، القيادي في حماس. وكان علي حسن سلامة (1940-1979)، أحد أبرز مساعدي ياسر عرفات، الذي تمكنت إسرائيل من اغتياله بعد مطاردة طويلة في السبعينيات، يرقد هو ورفاقه جنباً إلى جنب في أحد جوانب المقبرة. يجب على كل من يهتم بالشأن الفلسطيني أن يزور هذا المكان، وأن يقف أمام كل اسم في المقبرة، وأن يقضي بعض الوقت في قراءة قصصهم والتأمل فيها. فهناك قصص لا تتسع لها الكتب، اجتمعت في هذه المقبرة الصغيرة.

ثم توجهنا إلى المقبرة البروتستانتية ببيروت حيث يرقد المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935-2003). ومن بعيد، ألقينا التحية عليه وعلى رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (1944-2005) الذي يرقد أمام مسجد محمد الأمين في بيروت، ثم توجهنا إلى محطاتنا في المدن الأخرى:

وفي طرابلس، زرنا قبر العالم والمناضل فتحي يكن (1933-2009) بجوار جامع الأمير طينال. ولا يكاد يوجد في تركيا من سلك طريق الحركات الإسلامية ولم يقرأ كتابًا واحدًا على الأقل للمرحوم. وفي رحاب الجامع، كانت شواهد قبور عائلة ناجي، إحدى عائلات طرابلس، تروي القصة كاملة منذ العهد العثماني وحتى يومنا هذا.

وفي جولتنا في المناطق الداخلية والجنوبية من لبنان زرنا بعلبك، وكان الضريح المنسوب إلى خولة بنت الحسين هناك، دليلًا واضحًا على سياسة إيران في تغيير الهوية الدينية للجغرافيا عن طريق إنشاء القبور. وفي منطقة الشوف، لم نُهمل زيارة قبر كمال جنبلاط (1917-1977)، الذي اغتالته أياد سورية في الحرب الأهلية، ثم زرنا مقام النبي أيوب، أحد الأماكن المقدسة للدروز.

استمرت رحلتنا ثلاثة أيام، وقد كانت رحلة مكثفة شملت زيارة كل زاوية تقريبًا في هذا البلد الصغير، وكانت بمثابة قراءة تفصيلية معمقة لتاريخ الشرق الأوسط ولبنان الحديث، شهدنا خلالها بهاء الطبيعة وهشاشة التوازنات لدولة تواجه الانقسام تدريجيا، وصور العديد من "أبطالها" المختلفة التي كانت تظهر لنا في كل حي من أحيائها.


#رحلة
#قبور
#لبنان
#طرابلس
#الشرق الأوسط
#مقبرة
التعليقات

مرحبًا، تشكل التعليقات التي تشاركها على موقعنا مصدرًا قيمًا للمستخدمين الآخرين. يرجى احترام المستخدمين الآخرين والآراء المختلفة. تجنب استخدام لغة نابية أو مسيئة أو مهينة أو عنصرية.

لا توجد تعليقات حتى الآن

كن أول من يترك تعليقًا.

انقر هنا لتلقي أهم الأخبار في اليوم عبر البريد الإلكتروني. اشترك هنا.

بعد إنشاء العضوية تكون قد وافقت على تلقي الإشعارات من مواقع مجموعة ألبيرق الإعلامية وعلى شروط الاستخدام وسياسة الخصوصية