الفقاعات التي تم تضخيمها ثم تفجيرها (1)

09:5019/12/2024, الخميس
تحديث: 30/12/2024, الإثنين
سليمان سيفي أوغون

عند النظر إلى الأمور من منظور تاريخي وجيوسياسي واسع النطاق، فإن وجود روسيا وإيران بشكل قوي في العراق وسوريا، جنوب تركيا مباشرة، لا يمكن اعتباره تطورًا إيجابيًا بالنسبة لأنقرة. إذ تتمحور الجيوسياسة الإيرانية بشكل أو بآخر حول تحقيق منفذ نحو شرق البحر الأبيض المتوسط. يمكن فهم الصراعات الشهيرة في التاريخ، مثل الحروب بين الإغريق والفرس، وبين الرومان والساسانيين، وأخيرًا بين العثمانيين والصفويين، والعثمانيين والأفشاريين، والعثمانيين والقاجاريين، على أنها استمرار لهذه الجيوسياسية. ولا يمكن إغفال التأثير

عند النظر إلى الأمور من منظور تاريخي وجيوسياسي واسع النطاق، فإن وجود روسيا وإيران بشكل قوي في العراق وسوريا، جنوب تركيا مباشرة، لا يمكن اعتباره تطورًا إيجابيًا بالنسبة لأنقرة. إذ تتمحور الجيوسياسة الإيرانية بشكل أو بآخر حول تحقيق منفذ نحو شرق البحر الأبيض المتوسط.

يمكن فهم الصراعات الشهيرة في التاريخ، مثل الحروب بين الإغريق والفرس، وبين الرومان والساسانيين، وأخيرًا بين العثمانيين والصفويين، والعثمانيين والأفشاريين، والعثمانيين والقاجاريين، على أنها استمرار لهذه الجيوسياسية. ولا يمكن إغفال التأثير المدمر لهذه الحروب على الأطراف المتصارعة.


هذه الجيوسياسية تتجاوز أي اعتبارات دينية أو لاهوتية، بل على العكس، فإن التوجهات الدينية (التيوسياسية) تتغير وفق متطلبات الجيوسياسية في هذه المنطقة. على سبيل المثال، لم يغير أصل الشاه إسماعيل أو نادر شاه التركي من طبيعة هذه المنافسة.

ورغم أن معاهدة قصر شيرين ساهمت في تقليل حدة التوترات بين الأطراف، إلا أن النزاعات بين العثمانيين والقاجاريين استمرت حتى الفترة بين عامي 1906 و1907. تشكل الأراضي العراقية والسورية اليوم مناطق رمادية في إطار المنافسة التركية-الفارسية. ويظهر هذا التنافس بوضوح كجزء من استمرارية الصراع الجيوسياسي الذي يمتد عبر التاريخ، مع تأثيرات كبيرة على توازن القوى في المنطقة.

نجحت روسيا، بقيادة إيفان الرهيب، في إخضاع دولة القبيلة الذهبية التركية التي كانت تحيط بها. ومع تحقيق هذا الهدف، لم يتبق أمامها سوى عقبة واحدة لتقليص النفوذ العثماني في البحر الأسود، الذي أطلقت عليه اسم "المياه الدافئة"، وهذه العقبة كانت شبه جزيرة القرم. بعد أن تمكنت روسيا من هزيمة خانية القرم التركية، الحليف الأساسي للدولة العثمانية، حققت طموحاتها في البحر الأسود. ثم انتقلت إلى المرحلة التالية، وهي الوصول إلى "المياه الأكثر دفئًا"، أي البحر الأبيض المتوسط.


خلال فترة الحرب الباردة، سعت روسيا لتعزيز علاقاتها مع الأنظمة البعثية في المنطقة لتحقيق هذا الهدف. ولكن بعد انتهاء الحرب الباردة، عانت روسيا من خسائر كبيرة، كان أبرزها تأسيس أوكرانيا وفقدان شبه جزيرة القرم، وهو ما مثل ضربة قاسية لطموحاتها. أما بالنسبة للجيوسياسية التركية، فإن تراجع النفوذ الروسي في البحر الأسود كان يُعد مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا.



منذ عهد بطرس الأكبر، وضعت روسيا نصب أعينها هدف تقليص الهيمنة البريطانية في آسيا، مع الاستفادة من موقعها الجغرافي لتصبح قوة مهيمنة في القارة. في هذا السياق، لعبت إيران دورًا محوريًا. وخلال الحرب العالمية الثانية، عكس الاحتلال المشترك لإيران من قبل بريطانيا وروسيا قمة التنافس بينهما. ومن الواضح أن روسيا لن تتخلى عن إيران بسهولة، ولهذا فإن وجود القوتين جنبًا إلى جنب في سوريا اليوم ليس مجرد مصادفة.


بالإضافة إلى روسيا، كان على بريطانيا مواجهة تحدٍّ آخر يتمثل في ألمانيا. كان الخطر الأكبر بالنسبة للبريطانيين يتمثل في احتمال قيام تحالف بين روسيا وألمانيا. لذلك، تبنت بريطانيا سياسات دقيقة ومعقدة لإفشال هذا السيناريو. عملت على تأجيج العداء بين فرنسا وألمانيا من جهة، ومن جهة أخرى دفعت روسيا وألمانيا إلى صراعات متتالية حالت دون تعاونهما.


اتخذت بريطانيا على مدار قرنين سياسة مزدوجة تجاه الدولة العثمانية، تقوم على إبقائها ضعيفة بما يكفي لعدم التهديد، ولكن دون انهيار كامل. هذه السياسة، التي كانت السمة البارزة لدى المحافظين البريطانيين (توريز)، استمرت حتى صعود الحزب الويغي (Whigs) بزعامة غلادستون. ومع دخول مسألة النفط على الساحة، قررت بريطانيا وضع حد لوجود الدولة العثمانية.


خلال الحرب العالمية الأولى، تحالفت بريطانيا أولًا مع روسيا، لكنها استغلت الثورة البلشفية لإخراج روسيا من دائرة النفوذ في المنطقة. لاحقًا، تخلت عن فرنسا في منتصف الطريق، مما سمح لها بالاستحواذ على ثروات الشرق الأوسط، وتعزيز هيمنتها الإقليمية بشكل غير مسبوق.

تأسست الجمهورية التركية الحديثة في بيئة جيوسياسية معقدة. من منظور الجغرافيا السياسية التركية، تم تحييد إيران كتهديد رئيسي (وكان ميثاق سعد آباد 1935 أحد الأمثلة على ذلك). كما تم تحقيق نوع من التوازن والتقارب مع روسيا البلشفية. ومع ذلك، كانت القيادة التركية تدرك أن هذه التحالفات ليست دائمة.

(أعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية وراء التحول الجذري في التحديث التركي نحو الاتجاه الغربي كان خوف تركيا من محوري التهديد القريبين، روسيا وإيران، ورغبتها في تعزيز موقعها إزاءهما).

ومع ذلك، في عام 1945، أعادت روسيا إظهار نواياها العدائية، مما دفع تركيا إلى تعزيز علاقاتها بـ الكتلة الأنغلوأمريكية من خلال انضمامها إلى حلف الناتو.



بعد الحرب العالمية الثانية، نفذت روسيا تحركين استراتيجيين هامين: أولا استغلال التناقضات بين الكتلة الأنغلوأمريكية والاتحاد الأوروبي الناشئ. هذا التناقض كان امتدادًا للصراع التاريخي بين بريطانيا وألمانيا. وقد استمر التقارب بين روسيا وألمانيا، خاصة في مجال الطاقة، بوتيرة متسارعة.

ثانيا تعميق علاقاتها مع الهند، وهو تحرك استراتيجي رئيسي رغم الخسارة التي تكبدتها في علاقتها مع الصين بسبب خطة كيسنجر.


تتمتع الإمبريالية بأسلوب غريب في استراتيجياتها، حيث تمنح الأطراف التي تريد إسقاطها شعورًا وهميًا بالنصر قبل أن تدمرها. وبرزت هذه الاستراتيجية بوضوح في نفخ الفقاعات ثم تفجيرها.

ما شهدناه من أحداث مثل الثورة الإسلامية الإيرانية 1979، حروب العراق وإيران، حرب الخليج، والربيع العربي، يمثل انعكاسات لهذه الاستراتيجية في المنطقة. كان غرور صدام حسين وزواله اللاحق مثالًا بارزًا على هذه الآلية.


اتبع الإمبرياليون نفس النهج مع إيران، حيث كان "الهلال الشيعي" بمثابة الفقاعة التي تم تضخيمها ثم تفجيرها. خلال حروب الخليج ومرحلة الربيع العربي، كانت إيران قد اقتربت، ربما لأول مرة في تاريخها، من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

ويمكننا ملاحظة وضع مشابه من منظور روسيا أيضًا. فقد أعاد بوتين إحياء مشروع المياه الدافئة، من خلال إعادة توحيد روسيا، وكان الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم واستقراره في سوريا وظهوره المتزايد في أفريقيا أبرز مراحل هذا المشروع. أصبحت أوكرانيا وسوريا بؤرًا جغرافية تشهد تصاعد التنافس التاريخي بين بريطانيا العظمى وروسيا، وكذلك بين بريطانيا وألمانيا.

بعد بريكست، ومع تحالف بريطانيا العظمى مع التيارات اليمينية في الولايات المتحدة، بدأت في العودة إلى الساحة الدولية من خلال تعزيز عقيدتها البريطانية. سواء كان التوريون أو الويغز في السلطة، استمرت العقيدة البريطانية في فرض هيمنتها على الساحة العالمية، مستخدمة كل الوسائل الممكنة وفي جميع الأماكن.


وسرعان ما بدأت بريطانيا في جني ثمار هذه السياسة. ومع ذلك، أدت حرب أوكرانيا إلى حدوث شرخ عميق بين روسيا و الاتحاد الأوروبي، حيث كانت بريطانيا تأمل في أن يشهد هذا التحالف انهيارًا أيضًا على محور روسيا-الهند، لكن هذا الهدف لم يتحقق بعد. ومع ذلك، استطاعت روسيا تجاوز الأزمة بشكل غير متوقع.


أما بالنسبة لتركيا، كانت هذه التحولات الجيوسياسية بمثابة ضغط متزايد، حيث وجدت نفسها محاصرة بين إيران وروسيا في كل من العراق وسوريا، مما ساعد في تعزيز نفوذهما في المنطقة. ومع مرور الوقت، أصبحت تركيا تواجه تحديات كبيرة نتيجة الضغط المستمر من الكتلة الأنغلوأمريكية.

وفي هذا السياق، وجدت تركيا نفسها محاطة من قبل خصمين تاريخيين في وقت واحد، وهو ما شكل ضغطًا هائلًا عليها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

سنتابع في الجزء التالي.

#روسيا
#إيران
#تركيا
#بريطانيا
#الغرب
#الشرق الاوسط