لم تشهد منطقتنا تهديدًا بـ"تجزئة الخريطة" على هذا النحو منذ الانهيار الكبير الذي أعقب الحرب العالمية الأولى. فما تفسير تصاعد الهجمات العنيفة في وقت يبدو فيه الغرب في أضعف حالاته؟ اليوم، يمتد التهديد بأعمال القتل والحروب من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ومن المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، مشملًا جميع المناطق والدول ضمن هذا النطاق الجغرافي. هنا أمامنا احتمالان: الاحتمال الأول، أن إسرائيل تسعى لاستغلال هذه اللحظة التي قد لا تتكرر، خاصة مع احتمال تعقيد الأوضاع عقب الانتخابات
لم تشهد منطقتنا تهديدًا بـ"تجزئة الخريطة" على هذا النحو منذ الانهيار الكبير الذي أعقب الحرب العالمية الأولى. فما تفسير تصاعد الهجمات العنيفة في وقت يبدو فيه الغرب في أضعف حالاته؟
اليوم، يمتد التهديد بأعمال القتل والحروب من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ومن المحيط الهندي إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، مشملًا جميع المناطق والدول ضمن هذا النطاق الجغرافي. هنا أمامنا احتمالان:
الاحتمال الأول، أن إسرائيل تسعى لاستغلال هذه اللحظة التي قد لا تتكرر، خاصة مع احتمال تعقيد الأوضاع عقب الانتخابات الأمريكية. أما الاحتمال الثاني، فقد تكون إسرائيل في آخر فرصة متاحة لها للاستفادة من الأدوات الغربية في تحقيق مصالحها.
يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا قد تستخدمان إسرائيل كأداة "مطرقة" لفرض الهيمنة الغربية على العالم ومنع التخلي عنها، عبر التحضير لحرب واسعة النطاق. بهذا، تصبح القضية أعمق من مجرد ملف إسرائيلي؛ إنه تهديد شامل تدرك تركيا أبعاده الخطيرة.
هذا هو التهديد الحقيقي الذي يواجه دول منطقتنا؛ فهناك من يعمل على إعادة الحروب إلى أراضينا، ليحوّل موطن الحضارات إلى بؤرة للصراعات.
منذ أحداث 11 سبتمبر، شهدنا غزو العراق وأفغانستان، وحرب سوريا، والنزاعات التي جرت ضمن حدود الدول. غير أن تلك الأحداث لم تكن سوى خطوات مدروسة نحو "تجزئة كبرى للخريطة" تهددنا اليوم.
تم اختلاق أسباب محلية لتبرير كل هذه الحروب والاحتلالات. وقد تم خداعنا بالكامل بهذه "المبررات المصطنعة". لدرجة أن حتى أكثر الحكومات "وطنية" لم تستطع الاعتراض عند اتخاذ قرارات وإجراءات داخلية تتماشى مع مشاريع الاحتلال الإقليمي وتفتيت الخريطة.
فالقضية كانت تتعلق بالإرهاب، بصدام، بالقاعدة، بطالبان، بحماس، بحزب الله… حتى تركيا، وجميع دول المنطقة، تمكنت من إنتاج خطاب سياسي يتوافق مع كل سبب ومبرر لتحقيق أهدافها الوطنية، أو تم فرض هذا الخطاب عليها. كان هذا وهمًا كبيرًا، وخطأً قاتلًا.
وهذه الأوهام هي ما أوصلنا إلى هذا اليوم.
لكن منذ احتلال العراق عام 2003، كل ما حدث تم التخطيط له وتنفيذه للوصول إلى "تجزئة الخريطة" الحالية. لقد تم تصميم أنظمة الحكم، وخصائص الحكومات، وهياكلها السياسية والعسكرية وفقًا لهذا الهدف الكبير. كانت السنوات الخمس والثلاثون الماضية فترة حكم فيها تاريخ مزيف علينا جميعًا.
إسرائيل والولايات المتحدة، بالتعاون مع تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي، وصلوا إلى حدودنا، واضعين خريطة حرب أمام أعيننا. اليوم، لم يعد هناك تردد في استخدام مصطلح "الحرب الإقليمية" أو "تحويل الحرب إلى نزاع إقليمي"، حيث يعكس الوضع الحالي هذه الحقيقة بوضوح. فقد أصبحت إيران وسوريا والعراق والسودان واليمن في قلب الصراع، وتواجه مصر خطرًا محتملاً يتمثل في احتمال احتلال سيناء وانتشار الإرهاب.
لأول مرة منذ قرن، تجد تركيا نفسها في عمق صراعات الشرق الأوسط بهذا الحجم. فالإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بدعم من الولايات المتحدة وأوروبا، ثم امتداد عملياتها إلى لبنان، رسمت خريطة حرب جديدة بمشاركة تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي في العراق وسوريا، ووصلت إلى حدود تركيا.
في المساحة الممتدة من حدود تركيا إلى إسرائيل، أزيلت جميع العوائق. وفي ظل وجود إيران وروسيا في سوريا، إلا أن تواجدهما يفتقر إلى القدرة أو الإرادة الكافية لإيقاف هذه الخريطة الجديدة. "ممر داوود" المخطط له في سوريا لم يعد مجرد حلم.
منذ احتلال العراق عام 2003 وتأسيس قوة المطرقة، تلاه رسم "ممر الإرهاب" بين إيران والبحر الأبيض المتوسط خلال الحرب السورية، أُكمل بناء "ممر داوود". كنا نعتبر هذه المخططات حينها أوهامًا أو أهدافًا بعيدة المنال، أما اليوم، فالتهديد يحيط بكل حدود تركيا الجنوبية. أولئك الذين ما زالوا يعتبرون هذه المشاريع مجرد "أوهام" هم في الواقع جزء مباشر من هذا المخطط الإقليمي.
بعد 15 يوليو/تموز، يجب أن تتحرك "الإرادة الكبرى" بشكل عاجل؛ لم يعد هناك شيء مستحيل. لو لم تتمكن تركيا من استعادة قواها واتخاذ إجراءات حاسمة لتفكيك ممر الإرهاب بعد 15 يوليو/تموز، لوجدنا أنفسنا اليوم عاجزين أمام نقاشات حول "الممر" شمال الحدود التركية-السورية، وربما حتى داخل الأراضي التركية. كنا سنضطر إلى الدفاع عن أنفسنا ليس على حدودنا، بل في عمق الأناضول، في مدننا.
كل ما أُجل أو أُهمل أو أُعاق بفعل "الشركاء الداخليين" سيسهم في نقل هذه الحرب الإقليمية غدًا إلى قلب الأناضول، إلى مدننا وشوارعنا.
نحن نعيش في زمن تتحول فيه كل ما كان يُعد "مجرد خيال" إلى واقع وبسرعة كبيرة، حتى أن أدنى درجات الإهمال قد تُكلف الشعوب أثمانًا باهظة.
كل ما يلزم يجب القيام به دون تأجيل ولو ليوم واحد، فالتقصير خلاف ذلك يعني انتحارًا وتفتيتًا للجغرافيا.
فمن الآن فصاعدًا، لم يعد بوسع أي دولة الاعتماد على حدودها كحاجز دفاعي. لذا، ينبغي أن تُجرى المواجهات الحاسمة خارج الحدود وعلى مسافات بعيدة.
الوجود العسكري التركي في ليبيا، وقره باغ، والصومال، والبلقان، ومنطقة الخليج العربي، والعديد من الدول الأفريقية، هو تجسيد لهذه الرؤية. نسمي هذا "عقلية الإمبراطوريات التي تصوغ التاريخ وترسم الجغرافيا". إنها جينات سياسية متجذرة عبر قرون.
إذًا، فإن التوسع والاحتلال القادم من إسرائيل نحو الشمال، إلى جانب التجمعات العسكرية الموجهة ضد تركيا في شرق البحر المتوسط، وبحر إيجه، وقبرص اليونانية، يفرض على هذه الإرادة التحرك الفوري في سوريا. فالتهاون مرة أخرى في هذه المرحلة سيضع الأناضول أمام تهديد كبير.
لم تواجه تركيا، منذ تأسيس الجمهورية، تحديًا وجوديًا بهذا الحجم. إلا أنها انفتحت على آفاق واسعة من الجغرافيا مدركةً قرب هذا التهديد، فأبعدت المخاطر عن الأناضول. ومع ذلك، تظل سوريا والحدود الجنوبية نقطة الضعف الأكبر.
لقد أصبح التدخل الدائم لتحييد ممر الإرهاب و"ممر داوود" ضرورة لا تحتمل التأجيل. فلا يمكن، ولا ينبغي، لأي أولوية سياسية ولا حسابات داخلية أن تعلو فوق هذا الحصار الإقليمي الهائل والصراعات المتولدة عن التحولات في موازين القوى العالمية.
على تركيا أن تتخلى فورًا عن مفهوم "مكافحة الإرهاب" في تدخلاتها في سوريا، إذ إن هذا المفهوم يقيد العقول ويحد من الأفق ويمنع اتخاذ الخطوات اللازمة. "مكافحة الإرهاب" هي آخر حلقة في سلسلة الأكاذيب المفروضة علينا على مدى السنوات الخمس والثلاثين الماضية. فالوضع في سوريا لا علاقة له بالإرهاب، بل هو جزء من حروب إعادة رسم الخرائط الإقليمية، وجميع الدول الغربية ضالعة فيه.
على تركيا أن تتجاوز في تدخلاتها في سوريا التفكير في تنظيم بي كي كي وواي بي جي الإرهابي فقط. إن لم تفعل ذلك، وبقيت عند هذا الحد، فستفشل في التصدي للتهديد. تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي ليس سوى أداة ضغط وسلاح تستخدمه إسرائيل والولايات المتحدة ضد تركيا. ولذلك، فإن استهداف بي كي كي/واي بي جي الإرهابي هو استهداف لإسرائيل، وهو رد قوي على الإبادة الجماعية الجارية في غزة.
إن التهديد الذي يستهدف تدمير المنطقة بأسرها هو نتيجة التخطيط الإقليمي لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. ولضمان وجود تركيا واستقرار المنطقة، ينبغي أن تتخذ تركيا موقفًا واضحًا وحاسمًا لمواجهة هذا التهديد والحد من تداعياته.
لذلك، يجب أن يمتد التدخل في سوريا ليشمل ما هو أبعد من تنظيم بي كي كي/واي بي جي، واتخاذ خطوات لضمان أمن حلب والشمال السوري بأكمله، لأن التهديد سيبقى قائمًا من الجنوب وشرق المتوسط والغرب، حتى بعد القضاء على هذا التنظيم.
إن المواجهة الكبرى الحالية هي الأضخم منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. لم تشهد المنطقة على مدى القرن الماضي وضعًا مماثلًا؛ فالدول ضعيفة، وسيطرة الغرب وضغوطه بلغت مستويات هائلة، مما أصاب العقول بشلل كامل.
تشهد القوى العالمية تحولات تضعف من نفوذ الغرب، وتعيد توزيع القوة إلى مناطق أخرى، وتركيا واحدة منها. اليوم، تمر تركيا بأقوى مراحلها منذ تأسيس الجمهورية، حيث يتجسد هذا التقدم في قوة دفاعية هائلة وإدراك عميق لمفاهيم الإمبراطوريات الراسخة. لقد وصلت تركيا إلى مرحلة تؤهلها لتحقيق إنجازات كبيرة وربما أكثر.
مع انتقال القوة إلى منطقتنا، يجب علينا اغتنام هذه الفرصة التاريخية العظيمة، تمامًا كما فعلنا في الماضي حين بنينا إمبراطوريات بعدم تأجيل أو تجاهل مثل هذه الفرص. نحن اليوم على أعتاب قفزة تاريخية مشابهة، ويجب أن نتحلى باليقظة أمام أي "عروض مغرية" قد تهدف إلى تعطيلنا من الداخل.
التهديد الذي بدأ من إسرائيل في غزة ولبنان يمثل خطرًا حقيقيًا، وقد وصل هذا التهديد إلى حدودنا. لذا، حان الوقت لاتخاذ قرارات مصيرية ستسهم في رسم مسار التاريخ.