البورنوغرافيا الإعلامية والعمى المعرفي والاستعباد

11:196/10/2024, الأحد
تحديث: 6/10/2024, الأحد
يوسف قابلان

إن العالم الذي تهيمن عليه وسائل الإعلام ليس عالمًا يفهم فيه الإنسان نفسه والعالم من حوله بشكل أفضل. إنه ليس عصرًا يتواصل فيه الإنسان مع نفسه ومع محيطه ومع العالم بشكل أفضل وأعمق وأكثر إنتاجية. فالإعلام يقتل العصر. وبقتل العصر يقتل الحقيقة أيضاً. حيث إنه يسجن الإنسان في شبكة ضخمة من خلال إخضاعه للعصر. فيتحول العصر إلى شبكة تحاصر الإنسان. لماذا يعد عدم القدرة على التواصل أكبر مشكلة في عصر الإعلام؟ نحن نعيش في عصر وسائل الإعلام، لكن التواصل يُعَدّ من أكبر المشكلات الأساسية في عصرنا الحالي. تُعتبر وسائل

إن العالم الذي تهيمن عليه وسائل الإعلام ليس عالمًا يفهم فيه الإنسان نفسه والعالم من حوله بشكل أفضل. إنه ليس عصرًا يتواصل فيه الإنسان مع نفسه ومع محيطه ومع العالم بشكل أفضل وأعمق وأكثر إنتاجية. فالإعلام يقتل العصر. وبقتل العصر يقتل الحقيقة أيضاً. حيث إنه يسجن الإنسان في شبكة ضخمة من خلال إخضاعه للعصر. فيتحول العصر إلى شبكة تحاصر الإنسان.


لماذا يعد عدم القدرة على التواصل أكبر مشكلة في عصر الإعلام؟

نحن نعيش في عصر وسائل الإعلام، لكن التواصل يُعَدّ من أكبر المشكلات الأساسية في عصرنا الحالي. تُعتبر وسائل الإعلام أدوات يُفترض بها تعزيز التواصل، ولكن الإنسان يعاني ربما من أكبر أزمة تواصل في تاريخ الإنسانية في هذا العصر. وكما ترون، يكمن التناقض الكبير هنا. فكيف يمكننا فهم هذا التناقض وتجاوزه؟

قبل كل شيء، يجب أن نرى هذا التناقض بعمقه الفلسفي من جميع جوانبه، وهو أمر لا يتمكن من تحقيقه سوى فئة قليلة من الناس.

تعتبر وسائل الإعلام نفسها أكبر عائق أمام التواصل. فالإعلام يقتل التواصل. إضافة إلى أنه يفعل ذلك من خلال إخضاغنا لعمليتين صعبتين، أو بعبارة أكثر دقة وفلسفية، من خلال ممارسة نوعين من العنف الوجودي.

ولعل فهم أبعاد العنف هنا يتطلب منا النظر إلى أصل قولنا "وسائل الإعلام" فالوسائل جمع وسيلة. والوسيلة تعني أداة. فوسائل الإعلام إذًا، تعني الأدوات. وانتشار هذه الوسائل بشكل واسع لم يسهّل التواصل بل صعّبه، فباتت الوسيلة تحجب الرسالة، بل وتبتلعها. لم تعد الرسالة هي الأهم بل وسائل الإعلام. وحضور الوسيلة في كل مكان وزمان، وتقديمها لنفسها بدلاً من الرسالة، واستخدامها للحيل والتقنيات، كل هذا يؤدي باختصار إلى نوع من العنف الوجودي. وهذا العنف يساهم في تبخّر الرسالة، ويبرز أشكال تقديم الوسائل الإعلامية وطرق عرضها. فيختفي الحدث الأصلي ويتحول إلى شيء آخر، بل إلى شيء مادي بحت.

ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالإعلام يقدم رسالته بطريقة مغرية، أي يزينها ويقدمها بطريقة فنية لإغواء المشاهد وجذبه. إنه يحولها إلى شيء إباحي. وبذلك يضيف الإعلام نوعًا آخر من العنف الوجودي إلى عنفه الأصلي، وهو العنف البورنوغرافي الذي يمارسه على المشاهد.

ولا يكتفي الإعلام إذن بتجاوز الرسالة وتبخيرها، بل يقدمها بلغة مثيرة وإباحية مما يؤدي إلى تبخير المشاهد أيضًا. وهكذا يتحول العنف الفظ لوسائل الإعلام هذه المرة إلى عنف راق ومتطور.

وهنا لا تصل الرسالة إلى هدفها، ولا يفهم المشاهد ما يجري، بل يتعرض لعنف معرفي، ويعاني من العمى المعرفي والاستعباد. فصور الإعلام ليست صورًا واقعية، بل هي صور مثيرة ومصطنعة ومُغلفة، ويتم تقديمها بطريقة مغرية.

وبمجرد دخول الإعلام إلى أي مجال، تختفي الحقيقة. ويرتقي الإعلام بنفسه إلى مرتبة الحقيقة، بل إلى مرتبة أعلى من الحقيقة وبالأخص إلى مرتبة "الحقيقة المغرية".

هذه هيمنة الزيف المطلق.حيث يسلب الإدراك العقل، ويقضي على الحقيقة، ويحول الحياة إلى صحراء، ويحول الناس إلى عبيد أحرار وهميين ينتجونهم بشكل افتراضي بواسطة تقنيات إعلامية، تجذبهم إلى جلادهم، وتمنحهم وهم الواقعية أكثر من الواقع نفسه.


رؤيتان.. البصر والبصيرة

كيف يمكننا تجاوز إباحية الإعلام؟

يجب علينا أن نُلقي نظرة على أساليب الرؤية فقد تساعدنا هذه الأساليب على فهم ما قلناه حتى الآن وترسيخه جيدا.

هناك نوعان من الرؤية: الأولى هي رؤية عادية، تتم بواسطة البصر أو العين المجردة. فالعين المجردة ترى الظاهر، ولكنها لا تستطيع رؤية الباطن والعمق.

أما الرؤية الثانية، فهي رؤية استثنائية وعميقة تؤدي إلى الإدراك والوصول إلى الحقيقة، إنها البصيرة، العين الداخلية للإنسان، ويمكننا أن نسميها أيضاً عين القلب.

إذا اقتصرت على النظر إلى الظواهر السطحية، فلن تتمكن من رؤية أي شيء على حقيقته. الظاهر هو القشرة، وهو السطح المغري. يجب أن تتعمق وراء الظاهر، لتصل إلى جوهر المسألة وأصلها، عندئذٍ لن تجد صعوبة في إدراك مدى خطأ الظاهر وحتى مدى إضلاله.

البصيرة تقدم لنا شكلًا متعدد الطبقات من أشكال المعرفة والاكتشاف والوجود، يتيح لنا رؤية ما وراء الظاهر، والجانب الداخلي للأشياء، وحقيقتها.

العين المجردة من القلب لا ترى، بل هي عمياء. فالقلب هو الذي يمنح العين البصر الحقيقي. لذلك قال إرنست غومبريتش، أحد أبرز وأشهر مؤرخي الفن في عصرنا، "العين المجردة عمياء".

القلب يمكّننا من لمس ما نره دون أن نلمسه، ومن سماع ما ننظر إليه، ومن الشعور به. "أنا أشعر إذن أنا موجود"، "أنا أسمع إذن أنا موجود". إذا كان هو موجوداً فأنا موجود أيضاً، وإذا كنت أنا موجوداً فهو موجود أيضاً. هكذا يربط القلب بين روحين برباط رائع، ويجمع بين الطرفين.

ولهذا السبب بالذات، أقول لك: إذا فقدت قلبك، فلا تغتر بقولك "لدي عين"، فأنت لن ترى. باختصار، البصر يكشف فقط عن العيوب الظاهرة، بينما البصيرة تكشف عن العيوب الخفية التي تعيق تقدم الإنسان.


#البورنوغرافيا
#الإعلام
#الاستعباد
#التواصل