العلم والتكنولوجيا

09:4923/09/2024, الإثنين
تحديث: 29/09/2024, الأحد
سليمان سيفي أوغون

للأدوات تاريخ غريب. نحن البشر من نصممها وننتجها. لقد بلغ العلم الحديث مستوى هائلًا من التطور في الأدوات، سواء من حيث الكم أو النوع، خلال القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين. هذه التطورات السريعة نقلت البشرية التي اعتمدت لآلاف السنين على الطبيعة وكانت محدودة الأدوات، إلى بيئة جديدة تمامًا. كان الجميع يعتقد أن هذه الطفرات العلمية والتكنولوجية ستكون لصالح الإنسان. وكان هناك تصور سائد بين المثقفين أن هذه الاكتشافات ستحرر الإنسان من قيود الطبيعة وتقوده إلى حضارة متقدمة، حيث يحقق ذاته على المستويين العقلي

للأدوات تاريخ غريب. نحن البشر من نصممها وننتجها. لقد بلغ العلم الحديث مستوى هائلًا من التطور في الأدوات، سواء من حيث الكم أو النوع، خلال القرنين التاسع عشر والحادي والعشرين.

هذه التطورات السريعة نقلت البشرية التي اعتمدت لآلاف السنين على الطبيعة وكانت محدودة الأدوات، إلى بيئة جديدة تمامًا.

كان الجميع يعتقد أن هذه الطفرات العلمية والتكنولوجية ستكون لصالح الإنسان. وكان هناك تصور سائد بين المثقفين أن هذه الاكتشافات ستحرر الإنسان من قيود الطبيعة وتقوده إلى حضارة متقدمة، حيث يحقق ذاته على المستويين العقلي والروحي. بث العلم حينها الثقة في نفوس البشر. أما العامة، فلم يكن اهتمامهم منصبًا على هذا الجانب الفكري؛ بل كانوا يرون في التكنولوجيا وسيلة لحياة أطول، أكثر صحة وراحة.

كان هذا هو حلم "الزمن الجميل"، الذي استمر من سبعينيات القرن التاسع عشر حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914. كانت تلك فترة نصف قرن تقريبًا من الثناء والاحتفاء بالعلم والتكنولوجيا، وعيش نشوة التقدم.

لكن لم يكن الجميع على وفاق مع هذه التحولات. فهناك من رأوا فيها بشائر سوء، وكانوا غالبًا من الفئات التي لم تجد مكانًا لها في تقسيم العمل الجديد. وُصف هؤلاء بأنهم "رجعيون" وتعرضوا للنقد اللاذع. غالبًا ما كانت معارضتهم تعبر عن غضب، كما حدث مع حركة "اللوديين"، التي انطفأت بسرعة كما اشتعلت.

كان هناك أيضًا معارضة أخلاقية للتكنولوجيا، حيث أشار البعض إلى موضوع "الاغتراب". جادلوا بأن الأساليب التي فرضتها التكنولوجيا في العمل والعمليات أدت إلى فقدان البعد الإنساني. ورغم أن انتقاداتهم كانت تستحق التفكير، إلا أن التكنولوجيين اعتبروهم "مظلمين" عالقين في الماضي، وغارقين في الحنين والرومانسية. رأى هؤلاء المستقبل مظلمًا، بينما كان الماضي، بالنسبة لهم، مشرقًا.

كان البعض يرون أن هذه النعم التكنولوجية كانت نتاجًا للرأسمالية الجشعة. قسم منهم عارض التكنولوجيا من منطلق أخلاقي، بينما رأى آخرون أنه يمكن إعادة هيكلة العلم والتكنولوجيا لصالح الإنسانية، إذا تم فصلها عن الرأسمالية.

في النهاية، سواء أولئك الذين عارضوا التكنولوجيا لأسباب أخلاقية أو الذين أرادوا تحريرها من قبضة الرأسمالية، لم يكن حظهم جيدًا. الفريق الأول فقد مصداقيته، وآخر موجة كبيرة منهم كانت في عام 1968. أما المصلحون، فلم يتمكنوا من النجاح؛ إذ كانت الرأسمالية هي القوة التي تدفع بالعلم والتكنولوجيا إلى الأمام. كان فصل التكنولوجيا عن الرأسمالية يشبه محاولة نزع اللون من شيءٍ ما؛ عبثٌ لا طائل منه.


من منظور الجماهير، كانت الأسئلة مختلفة تمامًا. هل يمكن التخلي عن العلم والتكنولوجيا؟ هل كنا سنرضى بأن نعيش مثل أجدادنا ونتوفى في سن الثلاثين أو الأربعين في حين يمكننا الآن إطالة حياتنا؟ ألم تُقضَ على أمراض مثل شلل الأطفال والسل بفضل الاكتشافات العلمية؟ والتكنولوجيا التي تطيل العمر، هل ستمنحنا يومًا ما الخلود؟

بعد اختراع الهاتف عام 1871، أصبح بإمكاننا التحدث مع أحبائنا وكأنهم بجانبنا رغم بعد المسافات. هل كنا سنتخلى عن هذه الإنجازات ونعود لعصور كان الاتصال فيها يتطلب أسابيع أو شهورًا؟ الطرق الحديدية والبرية، الجسور والأنفاق التي تخترق الجبال، كلها جعلت العالم أكثر اتصالًا. هل كان بإمكاننا تجاهل كل هذا؟ لا أحد يمكنه الإجابة على هذه الأسئلة بسهولة.


كان الإنتاج الرأسمالي لفترة طويلة موجهًا نحو بناء البنية التحتية. وكان العلم والتكنولوجيا مخصصين لخدمة هذه الغاية. ركز الإنتاج الرأسمالي على قطاعات كبيرة مثل الهندسة، التعدين، الطاقة، النقل، والاتصالات، مما جعل هذه التطورات تبدو وكأنها موجهة لصالح البشرية جمعاء. لهذا السبب، اعتقد الاشتراكيون أن بالإمكان فصل العلم والتكنولوجيا عن الرأسمالية وإعادة هيكلتهما لصالح الإنسانية. لكن العقبة كانت الملكية الخاصة، وكانوا يرون أن التأميم هو الحل.


بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة منذ خمسينيات القرن الماضي، تغيرت طبيعة الإنتاج والاستهلاك. كان هذا التحول الهيكلي بقيادة الولايات المتحدة. فبينما كان التركيز سابقًا على تلبية الاحتياجات العامة، تحولت الرأسمالية إلى تلبية الاحتياجات الفردية.

حتى الاحتياجات الأساسية والطبيعية تم تحويلها إلى رغبات خيالية وغير محدودة عبر السينما والإعلانات. كانت هذه الرأسمالية المتطورة تسحب البشر بعيدًا عن واقعهم إلى عالم اصطناعي، حيث أصبح الافتراضي أكثر واقعية من الواقع. العلم والتكنولوجيا أصبحا في خدمة هذا التحول. ووصلت الثورة الرقمية إلى ذروتها، لتصبح كالـ "ثقب الأسود" الذي ابتلع البشرية. في هذا العالم الافتراضي، لم يعد منطقيًا الادعاء بأن العلم والتكنولوجيا يخدمان الإنسانية، بنفس عبثية محاولات "دون كيخوتي" مواجهة الطواحين.



#التكنولوجيا
#الرأسمالية
#خطر التكنولوجيا
#العلم والتكنولوجيا