عالم ملوث

08:4226/09/2024, الخميس
تحديث: 26/09/2024, الخميس
سليمان سيفي أوغون

ظهر تيار سياسي جديد يُعرف بالحركة البيئية في الساحة السياسية منذ الثمانينيات. وكان حزب الخضر في ألمانيا، بقيادة بيترا كيلي، من أبرز ممثلي هذا التيار. لاحقًا، نشأت حركة دولية تهدف إلى دعم وحماية البيئة، خاصة في الدول الصناعية. مع انتهاء الحرب الباردة، بدأت موجة النيوليبرالية بالانتشار في جميع أنحاء العالم. واجهت الأحزاب اليسارية، التي تدافع عن حقوق التوزيع والعدالة الاجتماعية، والأحزاب اليمينية التي تركز على الاستثمار، أزمة عميقة، حيث كانت جزءًا من النظام السياسي التقليدي. ونتيجة لذلك، تشكلت هيكلية

ظهر تيار سياسي جديد يُعرف بالحركة البيئية في الساحة السياسية منذ الثمانينيات. وكان حزب الخضر في ألمانيا، بقيادة بيترا كيلي، من أبرز ممثلي هذا التيار. لاحقًا، نشأت حركة دولية تهدف إلى دعم وحماية البيئة، خاصة في الدول الصناعية.

مع انتهاء الحرب الباردة، بدأت موجة النيوليبرالية بالانتشار في جميع أنحاء العالم. واجهت الأحزاب اليسارية، التي تدافع عن حقوق التوزيع والعدالة الاجتماعية، والأحزاب اليمينية التي تركز على الاستثمار، أزمة عميقة، حيث كانت جزءًا من النظام السياسي التقليدي. ونتيجة لذلك، تشكلت هيكلية جديدة تتألف من اليمين الجديد واليسار الجديد، إذ تأثرت كلا الجهتين بالموجة النيوليبرالية. بالغ اليمين الجديد في اعتبار النيوليبرالية قيمة اقتصادية مطلقة، في حين تعامل معها اليسار الجديد من منظور ثقافي، سياسي، وقانوني.

اتفق كلا الطرفين على ضرورة إعادة تقييم الشيوعية، بل وتحويلها إلى قضية انتقامية. أعلن اليمين الجديد، سواء من خلال مفهومه الكلاسيكي للاستثمار أو التوزيع، الحرب على الشيوعية الاقتصادية، أي نظام الاقتصاد المملوك للدولة. في المقابل، استهدف اليسار الجديد الهياكل القومية، مسلطًا الضوء على القوانين والسياسات والمشكلات الثقافية. كانت البيروقراطيات التي فشلت في مواجهة التحديات هدفًا مشتركًا للطرفين. في النهاية، تجسدت الأزمة العميقة التي تعاني منها المجتمعات الصناعية في تفككها، حيث كانت الشيوعية تمثل جوهر نظامها الوظيفي.


من جهته برز اليسار الجديد كتيار غير تقليدي يحمل أفكارًا مبتكرة، متضمنًا حقيبتين رئيسيتين. الأولى تتعلق بالحركة البيئية، التي تركز على قضايا تدهور المناخ وتعتمد بشكل كبير على الطبيعة. أما الثانية، فكانت مرجعيتها الأساسية الثقافة، حيث وجهت انتقادات عميقة للهياكل الثقافية في المجتمع الصناعي، معتبرةً أن الثقافة تشكل قضية أكثر تعقيدًا سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. استندت هذه المجموعات إلى روح المجتمع المدني، مع التركيز على حقوق الفئات المهمشة من حيث الجنس، العرق، والدين، والتي شعرت بأنها قُهرت أو تم تجاهلها من قبل الدول القومية. وقد ظهرت هاتان المجموعتان أحيانًا متجاورتين، وأحيانًا أخرى بشكل متداخل. هدف مثقفي اليسار الجديد كان إنشاء نظام عام جديد يتسم بالتنوع الثقافي والسياسي.


وعلى الرغم من وجود توترات بين اليسار الجديد واليمين الجديد، إلا أنها لم تصل إلى نفس الحدة التي شهدناها بين اليسار القديم واليمين القديم. كانت اهتمامات كل طرف منهما مختلفة تمامًا، وكلاهما نظر إلى الآخر على أنه غير ذي أهمية أو علاقة مباشرة. سلك كل منهما مساره الخاص، حيث تشاركا في تبني قيم الليبرالية ومعارضة الدولة. بينما كان اليمين الجديد متطرفًا في سياساته الاقتصادية، كان اليسار الجديد متطرفًا في سياسات الهوية. ورغم ذلك، لم تخلُ العلاقة بينهما من بعض نقاط الالتقاء، كما يظهر في صداقة تورغوت أوزال وجينغيز تشاندار.


في تسعينيات القرن الماضي، كان المشهد يشبه إلى حدٍّ كبير ما وُصف سابقًا. لكن بعد عام 2000، ظهرت ديناميكية جديدة تمثلت في التكنولوجيا الرقمية، التي أحدثت تغييرات جذرية في الاقتصاد والثقافة على حدٍّ سواء. فقدت الليبرالية الاقتصادية لليمين الجديد قوتها بعد أزمة عام 2008، في حين أسهمت القيم الثقافية التي دافع عنها اليسار الجديد في تصاعد العداء للأجانب وظهور الشعبوية اليمينية النازية تحت ضغط الأزمات الاقتصادية. أدت هذه الاضطرابات الاقتصادية والصراعات الثقافية إلى أزمة متزامنة لكلا التيارين، رغم أن مظاهر هذه الأزمة اختلفت بينهما.

ومع تزايد التحديات، بدأ اليسار الجديد بالعودة إلى الاهتمام بالقضايا الاقتصادية، خصوصًا مسألة التفاوت الاقتصادي، بعد فترة طويلة من الإهمال. ففي التسعينيات، كان يُنظر إلى الاهتمام بهذه القضايا بازدراء، وكان يوصف من يُصرّ عليها بـ"الديناصور". ورغم عودة هذا الاهتمام، فإنه كان غير مريح ولم يقدم حلولًا حقيقية، كما يتضح من أبحاث الفقر التي كانت مجرد تعبير عن المشكلة دون تقديم مقترحات فعّالة. من ناحية أخرى، وسّع اليسار الجديد نطاق نضاله ليشمل مقاومة الشعبوية اليمينية المتصاعدة.


أرى أن المحدد الأساسي في هذا السياق هو انقسام اليمين الجديد داخليًا. فقد شهد اليمين الجديد تفككًا داخليًا، حيث بدأت الشعبوية اليمينية المتصاعدة بالتمسك بقوة بالقيم الأبوية والتراثية التي ميزت اليمين القديم. المثال الأكثر وضوحًا على هذا الانقسام هو التباين بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة. فبينما تحولت توجهات الجمهوريين إلى الشعبوية اليمينية كما هو معروف، يظل الجانب الأكثر إثارة للاهتمام هو استمرار الديمقراطيين في دعم الرأسمالية المالية الفاسدة، مع تبنيهم لقيم اليسار الجديد مثل حماية البيئة، والمساواة الجندرية، والتنوع الثقافي.


يُعد "الاتفاق الأخضر الجديد" تعبيرًا واضحًا عن هذا المزج بين التيارات. (إن عدم اعتراض اليسار الجديد على هذا التهجين، بل واستعداده له، يثير العديد من التساؤلات). ويجسد التحالف المشابه لـ"إشارة المرور" في ألمانيا، الذي يجمع بين الليبراليين والخضر والديمقراطيين الاجتماعيين، هذا التوجه بوضوح. باختصار، نشهد اليوم نهاية للعلاقات التقليدية بين اليمين الجديد واليسار الجديد، لتحل محلها مرحلة من التقارب السريع والتداخل والاندماج بين اليسار الجديد واليمين الجديد المعدل. وإذا كان هذا تقاربًا يشبه الزواج، فإن من يباركه بلا شك هو تيار المحافظين الجدد. (تشير المواقف العدوانية والخطابية التي تبناها الخضر خلال حرب روسيا-أوكرانيا إلى هذا الاتجاه بوضوح).


لا أرى أن "زواج" الاقتصاد الثقافي مع الشعبوية اليمينية الجديدة، الذي تحول إلى صراع مدمر، يحمل قيمة تاريخية. فالمحدد الأساسي لكل شيء سيكون التكنولوجيا الرقمية. هذه التكنولوجيا تتطور على أساس نفي الاقتصاد الثقافي. (كان ماركس محقًا عندما أشار إلى أن التغيرات في القوى المنتجة هي التي تحدد مسار التاريخ). ستظهر العملات الرقمية، وسيتحول الاقتصاد المالي إلى مجتمع بلا نقود، مما سيؤدي إلى أتمتة الإنتاج واستخدام تقنيات تسويق جديدة تدفع بعمليات التبادل بعيدًا عن المجال العام. هذا بدوره سيؤدي إلى تراجع الاستهلاك المنزلي بعدما يفقد طابعه العام.

ستؤثر التكنولوجيا الرقمية أيضًا على المشكلات البيئية، حيث ستعمل على تنظيف البيئة الملوثة، ولكن من خلال إزالة مفهوم "البيئة" نفسه. وكذلك ستتغير الثقافة، حيث سيتحول الجندر الذي يدعمه اليسار الجديد إلى حالة من انعدام الجنسانية، وستصبح الهويات الثقافية فارغة من أي جوهر حقيقي. سيُترك الملحدون والمتدينون ليصارعوا بعضهم البعض، بينما ستعمل التكنولوجيا الرقمية على إلغاء الدين تدريجيًا. ورغم استمرار الصراعات العرقية والإثنية لفترة، فإن الرقمية ستسهم في تصفيتها عبر مفهوم "المواطنة الافتراضية."

بهذا الشكل، سنجد أنفسنا وقد تحررنا من بيئتنا الملوثة ومن مشكلاتنا العامة، وربما من إنسانيتنا نفسها.


#الاقتصاد
#التكنولوجيا
#عالم ملوث
#مشكلات اقتصادية
#الشعبوية
#اليمين
#اليسار
#الصراع بن اليمين واليسار
#نازية