تحتل الانتفاضات والتمردات مكانة مهمة في تاريخ الدول، ويمكن تفسير ذلك من خلال نظرية المركز والهامش. فالدول تُعتبر كيانات مركزية، بينما يُنظر إلى المناطق البعيدة عنها على أنها تُمثل الهامش. في الدولة العثمانية، يحمل مفهوم "الأطراف" (المناطق البعيدة عن المركز) دلالات جغرافية وثقافية، حيث يعكس حالة الفئات التي تعيش بعيدًا عن السلطة المركزية. تتمثل القضية الأساسية في العلاقة بين الدولة والمناطق الهامشية في استحواذ الدولة على الموارد التي تتولد من هذه المناطق، وهو ما يتحقق من خلال فرض الضرائب. أما النخبة
تحتل الانتفاضات والتمردات مكانة مهمة في تاريخ الدول، ويمكن تفسير ذلك من خلال نظرية المركز والهامش. فالدول تُعتبر كيانات مركزية، بينما يُنظر إلى المناطق البعيدة عنها على أنها تُمثل الهامش. في الدولة العثمانية، يحمل مفهوم "الأطراف" (المناطق البعيدة عن المركز) دلالات جغرافية وثقافية، حيث يعكس حالة الفئات التي تعيش بعيدًا عن السلطة المركزية.
تتمثل القضية الأساسية في العلاقة بين الدولة والمناطق الهامشية في استحواذ الدولة على الموارد التي تتولد من هذه المناطق، وهو ما يتحقق من خلال فرض الضرائب. أما النخبة في هذه المناطق، فيقومون بتنظيم انتفاضات ضد المركز نتيجة الضغوط الضريبية، وتُعتبر هذه الأفعال تهديدًا للنظام القائم.
تمتلك الدول جيوشًا، وتهدف هذه الجيوش إما إلى توسيع الأراضي أو الحفاظ عليها من خلال خوض الحروب. لهذه الحروب طبيعة وقواعد تضمن تنافس الأطراف المتحاربة، حيث تتقابل جيوش منظمة في ساحة المعركة لتبادل الضربات. الفائز يحصل على ما يريد، بينما يخسر الطرف الآخر، ولهذه الحروب جوانب ومنطق يمكن التنبؤ بها.
تتمثل إحدى الوظائف الأساسية للجيوش النظامية في قمع الانتفاضات الداخلية. وقد تتعقد الأمور في هذا السياق؛ فإذا تحولت موجة التمرد إلى قوة منظمة، تصبح المسألة أكثر خطورة. غالبًا ما يفتقر المتمردون إلى القوة والتنظيم اللازمين لمواجهة الجيوش النظامية، مما يجعلهم عرضة للهزيمة. لتعويض الفجوة في القوة، يقوم المتمردون بتغيير استراتيجياتهم، حيث يختبئون في البيئات التي يعرفونها جيدًا، ويقيمون الكمائن وينفذون هجمات من الخلف. هذه المواقف تُعتبر محبطة، إذ لا يواجه المتمردون عدوًا منظمًا. وقد شهدنا أن الجيوش القوية تكبدت خسائر كبيرة، بل حتى هُزمت أمام متمردين أقل قوة بكثير.
من هذا المنظور، يمكننا القول إن الدول تتمتع بالنزاهة، بينما يعتمد المتمردون على الكمائن والهجمات من الخلف. ومع ذلك، يمكن أن تحدث تقلبات غريبة وانتقالات غير متوقعة في هذه السياقات. على الرغم من تأكيد الدول على النظام الداخلي، فإنها تبذل جهودًا كبيرة لإضعاف منافسيها من خلال تقويض أنظمتهم. تتواصل هذه الدول مع العناصر المتمردة في الدول المنافسة، وتستفزها وتستخدمها لمصلحتها. لذا، فإن سجل الدول مليء بالتحديات والمشكلات. هذه الديناميات تنتشر على نطاق واسع، وعندما تشارك جميع الدول في هذا السلوك، يحدث نوع من التطبيع، حيث يتحول ما هو أخلاقي في جوهره إلى شيء طبيعي في سياق السياسة الواقعية.
التحديد المذكور أعلاه ينطبق بشكل خاص على الحدود التي فقدت فيها الدول السيطرة، وبشكل رئيسي على الثورات الريفية. أما ثورات العبيد أو الحرفيين، رغم دموية الأحداث، فمن الأسهل قمعها. في الثورات الحضرية، تعتمد فرص النجاح على دعم بعض أفراد النخبة في الدولة، الذين قد يوجهون أو يحرضون هذه الثورات. وفي هذه الحالة، تكون هناك دائرة قصيرة تُعتبر طبيعية تحت شعارات مثل 'ما يعود بالخير على الدولة'.
من المعروف أن الدول الحديثة تتميز بفارق كبير في القدرات مقارنة بالدول القديمة، مما جعل الحدود بين الأطر النظامية وغير النظامية أكثر غموضاً. سواء في قمع الثورات الاجتماعية داخل الدولة أو في الصراعات الدولية، بدأت الوجوه المظلمة وغير النظامية للدول تتأسس. تم دمج هيئات التجسس والتحريض، سواء للدفاع أو الهجوم، في هياكل الدولة وأصبحت جزءاً من الوضع الطبيعي. وفي الوقت نفسه، لم تتردد الجيوش في إنشاء وحدات خاصة قادرة على خوض حروب غير نظامية أثناء استمرار الحروب التقليدية.
يمكن لكل فرد أن يفسر هذه الأمور وفق احتياجاته الخاصة، حيث تتجلى التنافسات بين الدول بمصالح محددة. رغم أن هذه التنافسات قد تبدو غير نظامية، إلا أن هناك قوانين تنظم وجود الهياكل السرية التي تبقى غامضة. فكما تأسست وكالة الاستخبارات المركزية بموجب قوانين الولايات المتحدة، كان لدى الاتحاد السوفيتي أيضًا جهازه الأمني الخاص. تتنافس هذه المنظمات مع ما تراه أعداء داخليين، وتقوم بتحريض عناصر غير نظامية تحت مسميات تعزز شرعيتها مثل "بطل الشعب" و"مقاتلي التحرير". غالبًا ما تُنفذ هذه الأنشطة بسرية، وعند الاستفسار، يتم نفيها، وفي حال دعمها علنيًا، يُعلن أنه لصالح القوى المحلية "الشرعية.
خلال فترة الحرب الباردة، لم تتصارع الدول بشكل مباشر، بل سعت لتعزيز مواقفها عبر دعم النزاعات المحلية. لكن بعد انتهاء الحرب، تغيرت التوازنات. بدأ الغرب، الذي خرج منتصرًا، بتوجيه ضربات مباشرة ضد الدول القومية، مستندًا إلى مفهوم الإرهاب، الذي يفتقر لتعريف واضح ويطال كل الكيانات المتهمة. لم يعد الأمر مقتصرًا على الجماعات الإرهابية، بل شمل دولًا وأممًا اتهمت بالإرهاب بسبب تهديدها للقيم الغربية، مما جعل أي وسيلة لمواجهتها مباحة. كانت أفغانستان والعراق وليبيا من أولى ضحايا هذه الموجة.
هذا التحول أنهى عصر التوازن بين العوالم النظامية وغير النظامية، وحل محل الشرعية مفهوم الأمور المباحة. لم يُدرك أن هذا التغيير في مكافحة الإرهاب قد يحوّل الدول نفسها إلى كيانات تُنتج الإرهاب. نحن الآن في عصر يتجلى فيه الإرهاب الحكومي بمعناه الكامل، حيث يُبرز ما تفعله إسرائيل في غزة هذا المفهوم بوضوح. الحادثة الأخيرة، التي تمثلت في المذبحة الناتجة عن تفجيرات أجهزة الاتصال، تعد مثالًا صارخًا على ذلك.