رغم الحماس والضجة التي أثارها الإعلام المحلي الموالي لأوروبا حول دعوة الاتحاد الأوروبي تركيا لحضور اجتماع غير رسمي لوزراء الخارجية في بروكسل بعد خمس سنوات، إلا أننا سبق أن أشرنا في مقالنا المنشور يوم 25 أغسطس (إذا كان الشرق يتجه نحو تركيا وتتجه تركيا نحو الاتحاد الأوروبي) إلى أن هذا التطور لا يستدعي التفاؤل الزائد، وأن على تركيا ألا تتسرع في مد يدها إليهم، على الأقل حتى نحقق تقدمًا ملموسًا في علاقاتنا مع دول المنطقة. والآن، وبعد أن تم الترحيب بهذه الدعوة، نود أن نذكر القراء بأننا سبق وحذرنا من مغبة
رغم الحماس والضجة التي أثارها الإعلام المحلي الموالي لأوروبا حول دعوة الاتحاد الأوروبي تركيا لحضور اجتماع غير رسمي لوزراء الخارجية في بروكسل بعد خمس سنوات، إلا أننا سبق أن أشرنا في مقالنا المنشور يوم 25 أغسطس (إذا كان الشرق يتجه نحو تركيا وتتجه تركيا نحو الاتحاد الأوروبي) إلى أن هذا التطور لا يستدعي التفاؤل الزائد، وأن على تركيا ألا تتسرع في مد يدها إليهم، على الأقل حتى نحقق تقدمًا ملموسًا في علاقاتنا مع دول المنطقة. والآن، وبعد أن تم الترحيب بهذه الدعوة، نود أن نذكر القراء بأننا سبق وحذرنا من مغبة الاعتماد الكامل على هذه التطورات وأن هذه الخطوات قد لا تؤدي إلى نتائج ملموسة.
وإذا كان الصحفيون يبحثون عن موضوع يستحق التغطية، وهو ما يبدو صعباً في ظل هذه الأجواء الصيفية، خاصة أن صحافتنا تجد نفسها في حيرة بشأن ما تكتبه إذا سُحبت منها الأخبار العاجلة، فإني أقترح عليهم أن يكتبوا عن "قمة وزراء النقل" لبحث "طريق التنمية"، التي عقدت في إسطنبول يوم الخميس الماضي. وقد شارك في الاجتماع، الذي ترأسه وزير النقل عبدالقادر أورال أوغلو، وزراء النقل والطاقة من العراق وقطر والإمارات العربية المتحدة إلى جانب تركيا. وهم نفس الوزراء الذين وقعوا على مذكرة التفاهم للمشروع خلال زيارة الرئيس أردوغان إلى بغداد في أبريل.
لقد تحدثنا مرارًا وتكرارًا في هذه الزاوية عن أهمية المشروع الضخم الذي يمتد لثلاث مراحل في الأعوام 2028 و2033 و2055، وعن مدى ملاءمته للأبعاد الإقليمية والعالمية. وإذا كان هناك مشروع يستحق السعي وراءه، فهو هذا المشروع بالتحديد. فبعد أكثر من نصف قرن من الطرق على أبواب الاتحاد الأوروبي، قد لا نجد في هذا الخيار ما يرضينا. لذلك دعوني أضيف بعض النقاط الهامة.
لقد كان أحد أهداف زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى باكو هو مناقشة مشروع خط أنابيب الطاقة الذي يربط بين روسيا والقوقاز وتركيا وأوروبا. وعقب هذه الزيارة، زار وزير خارجية أذربيجان جيحون بايراموف أنقرة (في 27 أغسطس) وتطرق مع المسؤولين الأتراك إلى هذا المشروع الذي يمثل "خطًا أفقيًا"، في المقابل يمثل مشروع "طريق التنمية" "الخط العمودي.
وصرح وزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف بأن التعاون بين أذربيجان وتركيا في مجال الطاقة مهم وأنه لا يقتصر على مصلحة البلدين فحسب، بل إنه غيّر خارطة الطاقة في أوراسيا أيضاً.
كما أكدت الكرملين وجود مسارات بديلة (لإمداد أوروبا وأوكرانيا بالطاقة)، مشيرة إلى الخطط الرامية إلى إنشاء مركز للطاقة في تركيا، وأن العمل عليها لا يزال مستمراً. وأشارت موسكو أيضًا إلى وجود خط أنابيب آخر يربط بين الهند والبصرة وإيران وروسيا، وهو ما يمثل "خطًا أفقيًا" آخر.
بالطبع، هذا وصف محدود جداً لمساعي روسيا وتركيا في مجال "مسارات الطاقة". هناك تفاصيل أخرى أكثر أهمية..
فقد صرح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، ألب أرسلان بيرقدار، في 15 أغسطس، بأن "تركيا أصبحت الآن دولة رائدة في منطقتها وفي أوروبا، في تأمين إمدادات الطاقة وذلك بفضل قدرتها على إنتاج الغاز الطبيعي الخاص بها، وتنويع مصادر التوريد، والبنية التحتية القوية التي تمتلكها.
ومن المهم ملاحظة أن مشروع طريق التنمية سيكون مكملاً للطرق الحالية والمستقبلية، وإذا كان من المفترض التحاور مع الاتحاد الأوروبي، فيجب مناقشة مساراته، وإجراءاته، وارتباطاته.
فمشروع طريق التنمية أصبح يندرج ضمن جغرافيا سياسية جديدة، سواء في أوراسيا أو الشرق الأوسط أو أوروبا، أو تركيا التي تجمع بين هذه المناطق. وهذا الوضع الجديد يوفر فرصًا جديدة للأطراف المعنية، ولكنه يسعى أيضاً لتحذيرهم من العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن تفويت هذه الفرص، على خلاف الأوضاع المشابهة. وقد أدركت الأطراف الأخرى هذه الحقيقة، ولكن الاتحاد الأوروبي لم يفهمها بعد. وهذا هو ما يجب توضيحه للاتحاد الأوروبي. وإلا فإن الاجتماع الحواري الذي عقد بعد سنوات عديدة سيكون بلا جدوى.
ألا حقاً نرغب في المصالحة مع سوريا؟
دعونا نتطرق إلى جزء آخر من هذه الخريطة.
في أعقاب الدعوات الصادقة والمخلصة من الرئيس أردوغان لبدء تطبيع العلاقات مع سوريا، والتي قوبلت بمحاولات التوصل إلى تفاهم بدعم من روسيا وبعض الدول العربية وحتى إيران، إلا أن ردود دمشق لم تكن بنفس المستوى من الترحيب.
وفي نهاية المطاف، فتح بشار الأسد باباً للحوار، مشيراً إلى أن "عودة العلاقات إلى طبيعتها تتطلب عكس السياسات التي أدت إلى الوضع الحالي، مثل انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية ووقف الدعم للمجموعات الإرهابية. ومع ذلك، هذا ليس شرطًا مسبقًا لبدء المحادثات. فليس صحيحًا القول إننا لن نبدأ محادثات ما لم تسحب تركيا قواتها".
بعد ذلك، صدرت تصريحات عن مصادر في الخارجية التركية تضمنت أربعة شروط، هي: "تطهير سوريا من الإرهاب، وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، أي التوصل إلى حل سياسي، وتوفير بيئة مناسبة لعودة اللاجئين، واستمرار المساعدات الإنسانية دون انقطاع".
قد يتبادر إلى الذهن من خلال قراءة هذه التصريحات أن أنقرة تتردد في التطبيع مع دمشق، وهذا طبيعي فالتصريحات تعطي هذا الانطباع، ولكن الأمر ليس كذلك.
أولاً، تركيا ترغب في التطبيع وستواصل مساعيها في هذا الاتجاه. ثانيًا: المشكلة تكمن في مسألة انسحاب القوات التركية. فتركيا لا ترغب في إهدار سنوات من الجهد المبذول في مكافحة الإرهاب، ولا ترغب في خلق فراغ يسمح لقوى أخرى بالاستفادة منه. ثالثًا: الانسحاب حاليًا سيؤدي إلى ذلك تمامًا، وهو ما تريده الدولتان ونصف الدولة التي ذكرها وزير الخارجية فيدان. كما أن النظام السوري ليس لديه القدرة على السيطرة على كامل الأراضي السورية في الوقت الحالي. رابعًا: لذلك تسعى أنقرة إلى تأجيل مسألة الانسحاب وإرجائها إلى مراحل متقدمة أو حتى إلى المرحلة النهائية. وهذا أمر طبيعي. خامسًا: تركيا تفهم وجهة نظر الحكومة السورية، ولكن هذا لا يعني الموافقة عليها.
إن استنتاج أن تركيا لا تنوي التوصل إلى مصالحة مع سوريا بناءً على تصريحات المسؤولين في الخارجية التركية ليس استنتاجا مبالغا فيه فحسب، بل يعكس فهماً خاطئاً للمسألة.