في وقت تستعد المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس" للتدخل عسكريا في النيجر بدعم فرنسي لوضع حد لانقلابات المنطقة، فإذ بانقلاب الغابون يصدم الجميع، لكن الاتحاد الأوروبي لا يعتقد أن الانقلابين متشابهين.
ففي حديثه لشبكة "سي إن إن" الأمريكية في 31 أغسطس/آب المنصرم، قبيل اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد في مدينة طليطلة الإسبانية، شدد مفوض الشؤون الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل، على أن "الوضع في النيجر والغابون غير متماثلين بتاتا".
وقال بوريل: "في النيجر كان الرئيس (محمد بازوم) منتخبا ديموقراطيا، أما في الغابون فقبل ساعات من الانقلاب العسكري (30 أغسطس)، حصل انقلاب مؤسساتي لأن الانتخابات سُرقت".
وهذا التصريح يدعو للتساؤل حول "ما وراء الأكمة" في انقلاب الغابون، وهل هو استمرار لتراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا لصالح التمدد الروسي؟ أم أنه جاء بضوء أخضر من الغرب لإنهاء حكم عائلة بونغو الذي استمر لنحو 56 سنة، واختتم بانتخابات وصفتها المعارضة والجيش والشرطة بـ"المزورة"؟
انقلابان بطعم مختلف
ورغم أن انقلاب الغابون جاء بعد 36 يوما من نظيره بالنيجر، إلا أن اختلافات جوهرية بين الانقلابين، أبرزها أن بازوم أول رئيس منتخب في النيجر يستلم السلطة سلميا من رئيس منتخب، وكان ذلك في العام 2021، في انتخابات جرت من دورتين، ولم تشكك أي دولة في نزاهتها.
بينما علي بونغو، فاستلم السلطة من والده عمر بونغو (1967-2009)، وحكم البلاد لولايتين رئاسيتين (2009-2023)، ورغم إصابته بسكتة دماغية نهاية 2018 خلال حضوره مؤتمر بالسعودية، ثم تعرضه لمحاولة انقلاب فاشلة في 2019، بسبب "وضعه الصحي"، إلا أنه ترشح في 2023، لولاية رئاسية ثالثة رغم تحفظات داخلية وغربية من ترشحه لأكثر من عهدتين رئاسيتين.
ولم تحظ انتخابات الغابون التي أجريت في 26 أغسطس برضى المجتمع الدولي، على عكس انتخابات النيجر، إذ لم يُدعَ إليها مراقبون دوليون ولا صحفيون أجانب، وتم وقف خدمات الإنترنت بعد غلق صناديق الاقتراع، كما وقعت اعتقالات، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى وصفها بـ"المعيبة".
فانقلاب النيجر قام على رئيس منتخب لم يحكم سوى أقل من عامين ونصف، بينما انقلاب غينيا قام على رئيس حكم وعائلته البلاد أكثر من نصف قرن، وكان يجهز نفسه لولاية رئاسية ثالثة رغم "مرضه"، وكان يحضر ابنه نور الدين، ليخلفه في الحكم، بدعم من رئيس الحرس الرئاسي الذي انقلب عليه.
وهذه المرة الأولى التي ينجح فيها انقلاب عسكري في الغابون التي لم يحكمها منذ الاستقلال سوى ثلاثة رؤساء، أولهم ليون إمبا (1960-1967)، الذي غادر الحكم بعد وفاته، واستلم عمر بونغو، الحكم من بعده بصفته نائب الرئيس وبقي في السلطة إلى غاية وفاته بأزمة قلبية في 2009، ليخلفه ابنه علي بونغو.
أما النيجر فلها تاريخ طويل مع الانقلابات، حيث وقع بها أربع انقلابات ناجحة، ناهيك عن انقلابات فاشلة عديدة.
فثقافة البلدين مع الانقلابات مختلفة، فبينما لا تعد شيئا غريبا أو مفاجئا في النيجر، فإنها في الغابون الوسيلة الوحيدة "للتداول على السلطة".
وجغرافيا تطل الغابون على خليج غينيا والمحيط الأطلسي غرب القارة الإفريقية، ويحدها من الشمال الكاميرون وغينيا الاستوائية ومن الشرق والجنوب الكونغو (برزافيل)، لكنها سياسيا تنتمي إلى المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا التي تضم 10 دول، تتمثل في دول الجوار الثلاثة، والكونغو الديمقراطية وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وأنغولا وبورندي و"ساوتومي وبرينسيب".
أما النيجر، فرغم موقعها وسط الصحراء الكبرى إلا أنها سياسيا محسوبة على "إيكواس" التي تعتبر أقوى وأكثر حيوية وتماسكا من الأولى.
واللافت للنظر، أن الانقلابين في البلدين قادهما رئيسا الحرس الجمهوري، الذي يمتلك أكثر العسكريين ولاء وتدريبا وربما تسليحا، لحماية الرئيس من أي انقلاب.
روسي أم فرنسي
لم يتضح بعد ما إذا كان انقلاب الغابون سيبتعد عن النفوذ الفرنسي ويقترب من روسيا مثلما يحدث في النيجر وقبله انقلابا مالي وبوركينا فاسو، أم أنه سيختار النموذج الغيني الذي لا يعادي فرنسا رغم تحفظه على بعض ممارساتها.
لكن المؤشرات الأولية توحي بأن الانقلابيين في الغابون هواهم فرنسي، لكن ذلك قد يتغير تحت ضغط الظروف إذا ما اتخذت باريس مواقف متشددة ضدهم، وهو أمر مستبعد في ظل تركيزها على النيجر.
فأول حوار أجراه قائد الحرس الجمهوري الجنرال أوليغي نغيما، الذي يقود الانقلاب في الغابون، كان مع جريدة "لوموند" الفرنسية.
كما أن باريس ورغم إدانتها للانقلاب إلا أنها لم تطالب بعودة بونغو إلى الحكم مثلما تعاملت مع انقلاب النيجر.
إذ أعلنت فرنسا أنها "تراقب الأحداث عن قرب، وعبرت عن رغبتها في رؤية احترام نتائج الانتخابات حال معرفتها"، وفق تصريح للمتحدث باسم حكومتها.
باريس تتبنى موقف المعارضة الغابونية المطالب بمواصلة العملية الانتخابية والانتهاء من إحصاء الأصوات.
بينما عيّن قادة الانقلاب قائد الحرس الرئاسي الجنرال نغيما، رئيسا انتقاليا للغابون، ما يرجح أن المجلس العسكري الانتقالي سيتولى الحكم لفترة انتقالية لم تحدد بعد قبل إجراء انتخابات رئاسية جديدة، ولن يعيدوا إحصاء أصوات الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي وصفوها بالمزورة.
وهذا الخلاف بين رؤية فرنسا لحل أزمة الغابون دون إطالة، وتوجه قادة الانقلاب نحو مرحلة انتقالية غير محددة قد تستغرق سنوات، من شأنه أن يتعمق إذا تمسك كل طرف بموقفه، ومن هنا يمكن لروسيا أن تملء الفراغ.
فرنسا تفرض نفوذها عسكريا واقتصاديا على الغابون، إذ تقيم قاعدة عسكرية دائمة بها، وتهيمن مجموعة "توتال" على إنتاج النفط بالبلاد، العضو بمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والتي تنتج 200 ألف برميل يوميا، تمثل نحو 80 بالمئة من صادرات البلاد.
كما تستخرج شركة "إيراميت" الفرنسية المنغنيز في الغابون، التي تعتبر ثاني أكبر منتج لهذا المعدن في العالم، والذي يستخدم في صناعة الحديد والصلب وبطاريات السيارات.
وكانت الغابون تصدر الأخشاب، باعتبار 90 بالمئة من أراضيها غابات، لكن الرئيس علي بونغو أوقف تصديره في 2010، لأسباب بيئية، بعد عام واحد من توليه الحكم، ولم يخدم ذلك مصالح فرنسا التي كانت تعتبر ثاني زبون لأخشاب الغابون بعد الصين.
أما روسيا فلا تملك نفوذا بارزا في الغابون التي لا تعاني من نشاط للجماعات الإرهابية مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو، وبالتالي فهي ليست بحاجة إلى خدمات شركة فاغنر العسكرية الروسية، المنتشرة في بعض بلدان إفريقيا الوسطى.
لكن الصين تملك بعض النفوذ إذ أنها الزبون الأول للنفط الغابوني، وكانت إلى وقت مضى الزبون الأول لأخشابها، ولها استثماراتها التي تزاحم الشركات الفرنسية.
والغابون على عكس دول الساحل، تعتبر من أغنى الدول الإفريقية (على الورق)، حيث يبلغ ناتجها الفردي الخام 8 آلاف و820 دولار للفرد، وناتجها الإجمالي الخام 21 مليار دولار، وفق بيانات البنك الدولي لعام 2022، بالنظر إلى أن عدد سكانها قليل ولا يتجاوز 2.3 مليون نسمة، لكن غالبية شعبها يعيش الفقر بسبب الفساد وتركز الثروة بأيدي أقلية.
وهذا الوضع يُصعب من مهمة روسيا للتغلغل في البلاد، خاصة أن شعب الغابون لم يبد نفس العداء لباريس، ولم يتظاهر أمام سفارتها أو قاعدتها العسكرية، ولم يرفع الأعلام الروسية كما حدث في النيجر.
فانقلاب الغابون أقرب إلى انقلاب غينيا منه إلى انقلاب دول الساحل الثلاثة (النيجر ومالي وبوركينا فاسو).
كما أن قائد الانقلاب نغيما، رجل تخرج من المدرسة العسكرية بمكناس المغربية، وعمل ملحقا عسكريا في المغرب والسنغال، ولديه أملاك وعقارات في الولايات المتحدة، وفق إعلام فرنسي، وبالتالي ميوله غربية وليس له ارتباطات معروفة بروسيا.
ويمكن احتواء انقلاب الغابون فرنسيا مثلما كان الحال في غينيا التي قطع فيها الانقلابيون الطريق على ولاية ثالثة للرئيس ألفا كوندي.
ومن المرجح أن لا تغامر باريس بممارسة ضغوط شديدة على الانقلابيين في الغابون تدفعهم مكرهين إلى حضن موسكو، إذا لم تفرض عقوبات على الانقلابيين، ولم تحرض على عمل عسكري ضدهم مثلما تفعل في النيجر، ولو أن الأمر ما زال سابقا لأوانه.
قلق في وسط إفريقيا
من شأن انقلاب الغابون أن يخلف عدة انعكاسات على أكثر من جبهة إقليمية، أولها المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا "إيكاس" التي انتظرت يوما كاملا لإدانة انقلاب الغابون، وطالبت بـ"عودة النظام الدستوري سريعا"، دون الإشارة إلى عودة بونغو إلى السلطة، ما يعني أن أوراقه احترقت، ولا أحد استجاب لاستغاثته.
والرئيس الكاميروني بول بيا الذي يحكم البلاد منذ 1982، أجرى تعديلات بوزارة الدفاع بعد ساعات من انقلاب الغابون، ما يعكس قلقا من انتشار عدوى الانقلابات وسط إفريقيا على غرار غرب القارة.
ورغم أن تشاد سبقت بقية دول "إيكاس" في تجميد نظامها الدستوري بعد مقتل الرئيس إدريس ديبي في 2021، إلا أن وضعها في منطقة الساحل بعيدا عن المنطقة الاستوائية جعل تأثيرها أقل من تأثير انقلاب الغابون.
أما بالنسبة لمجموعة "إيكواس" فانقلاب الغابون يشتت التركيز على انقلاب النيجر، ويربك العملية العسكرية المرتقبة التي تلقى معارضة جزائرية وروسية ومن دول الساحل الثلاثة.
نيجيريا التي كان يفترض أن تقود العملية العسكرية ضد انقلاب النيجر، اقترحت فترة انتقالية من 9 أشهر، بينما المبادرة الجزائرية لحل الأزمة دبلوماسيا تحدثت عن مرحلة انتقالية من 6 أشهر.
وهذا يعني أن انقلاب الغابون خفف الضغط على النيجر، لكن بونغو فقدَ فرصته للعودة إلى السلطة، إلا أن التساؤل المطروح هل سيسلم الجيش السلطة للمدنيين بعد مرحلة انتقالية قصيرة، أم أنه سيفضل الاحتفاظ بها والاصطدام بفرنسا والغرب، وبالتالي التحالف مع روسيا يصبح اضطراريا.