أتواجد في لندن منذ نحو أسبوع في محاولة لمتابعة ردود الأفعال حول قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي وقعته الدول 5+1 مع إيران عام 2015.
من المعروف أنّ بريطانيا وفرنسا وألمانيا كانت تحاول منذ فترة طويلة إقناع إدارة ترامب بمواصلة الاتفاق وعدم الانسحاب منه، وكان هناك تكهنات تشير إلى أنّ هذا الشأن شكّل أهم مواد الزيارات التي أجراها القادة الأوروبيون تواليًا مؤخرًا إلى البيت الأبيض.
وكان مستشار الأمن القومي الجديد للرئيس الأمريكي جون بولتون قد ردّ بجواب مثير على سؤال وجه إليه حول متى قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق؛ إذ قال "اتخذ القرار مباشرة قبل بدء خطابه"، لكن لا يمكن ألا نعتقد أنّ ترامب لم يثمَّن هذا الموضوع خلال مباحثاته مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أو أنه لم يقل شيئًا حول هذا الأمر خلال اتصاله برئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي.
وفي الواقع، كان ترامب يشعِر الجميع بأنّ الدور سيحين على الاتفاق النووي الإيراني ضمن استراتيجيته لهدم كل شيء اعتبره من "إرث أوباما" منذ دخوله البيت الأبيض، وكان يكرر منذ فترة طويلة أن هذا الاتفاق يعتبر "فضيحة مخزية". فالقادة الأوروبيون، الذين لم يجرؤوا كثيرًا على البقاء دون الولايات المتحدة على هذا الجانب من الأطلسي بسبب التهديد الروسي المتنامي، فشلوا في إقناع ترامب بتساهلهم قائلين "حسنًا، يمكننا غض الطرف عن زيادتك للعقوبات بعض الشيء، لكن يكفي ألا تنسحب من الاتفاق النووي".
كنت قد كتبت في هذا العمود سابقًا أنّ هناك احتمالًا كبيرًا أن يصدر ترامب هذا القرار خلال شهر مايو/أيار الذي توقعنا أن يشهد عدة نقاط تحول مثيرة بالنسبة للشرق الأوسط كافتتاح السفارة الأمريكية في القدس. لكن قبل قليل من بدء المفاوضات مع كوريا الشمالية، كان هناك احتمال مواصلة الاتفاق لعدة أشهر مقبلة لإخفاء إلى أي مدى الولايات المتحدة دولة لا يعتمد عليها، وحتى كذلك لا يتسببوا في هروب كيم جونغ أون من على طاولة التفاوض. لكنّ هذا لم يحدث عندما اتخذ ترامب قرار انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران.
إنّ سياسة "أمريكا أولًا" التي يتبناها ترامب جعلت الولايات المتحدة تنسحب أولا من عدة اتفاقيات دولية مثل اتفاقية باريس للمناخ والشراكة عبر المحيط الهادئ (TTP)، ثم وصول واشنطن إلى شفا حرب اقتصادية مع العملاق الصيني، وكذلك نشوب مناقشات حادة حتى مع حلفائها الأوروبيين بسبب التعريفات الجمركية الجديدة التي فرضها ترامب على واردات الصلب والألومنيوم. ولا شك أنّ قرار الانسحاب، الذي أسعد الحلفاء الجدد المقربين من إدارة ترامب مثل إسرائيل والإمارات والسعودية، والذي جاء عقب ادعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الأسبوع الماضي، من خلال استعراض مثير، أن "إيران لا تزال تواصل أنشطتها النووية"، عندما ننظر إليه من لندن سنرى أنه يعتبر آخر خطوات ترامب التي زادت حدتها بمرور الواقت وصارت تمثل تهديدًا لا يلقي بالا حتى لأقرب أصدقائه القدامى بالنسبة لأوروبا التي استطاعت أن تؤجل العمل بالتعريفات الجمركية الجديدة لشهر واحد فقط بالرغم من كل الضغوط التي مارستها على واشنطن.
وعقب هذا الشق الجديد في جبهة العابرة للأطلسي، أصدر كل من ماي وميركل وماكرون تصريحا مشتركًا أعلنوا فيه التزامهم بالاتفاق النووي مع إيران، وهو التصريح الذي صدر كذلك عن الاتحاد الأوروبي. وقد أعربت رئيسة وزراء بريطانيا ماي عن "حزنها العميق" بسبب قرار ترامب، مشددة على أنّ بلادها لن تنسحب من هذا الاتفاق.
لا ريب أنّ قرار أمريكا الانسحاب من الاتفاق النووي سيزيد من الغموض في الأسواق، لا سيما وأنّ كل قرار يتخذه ترامب يؤثر بشكل كبير على عالم المال والأعمال. فإغلاق هذا الباب أمام طهران التي التقطت بعض الأنفاس في ظل أزمتها الاقتصادية بعد توقيعها عقود نفط جديدة في الفترة التالية لعام 2015، سيجعل بعض الدول المتشوقة لهذا الأمر كالسعودية أن تقول "يمكننا تلبية أي احتياج من النفط بسبب العجز"، بيد أن هذا النوع من التصريحات لا يرضي حتى الأوساط التي تفكر في مصالحها أكثر من أي صراعات جديدة محتملة، ذلك أن تلك الأوساط ترى أنه من الصعب إحقاق هذا القرار الذي اتخذه ترامب، حتى من منظور الأمن القومي.
ومن ناحية أخرى، فقد أعلن البيت الأبيض أنه سيمهل الشركات التي بدأت تعمل مع إيران عقب توقيع الخزينة الأمريكية الاتفاق 180 يوما حتى تنهي تعاقداتها. وأما الأمر الوحيد الذي يشغل بال العديد من الشركات التي وقعت عقودًا مع إيران هو سؤال "هل ستضعهم الحكومة الأمريكية ضمن القائمة السوداء لو لم يلغوا التعاقدات مع إيران؟ هل سيواجهون تهديدات خطيرة كطردهم خارج النظام المصرفي الأمريكي؟"...
وعقب هذا القرار، الذي يصب في مصلحة الصين على المدى البعيد، ستنعزل الولايات المتحدة بعض الشيء عن العالم الخارجي، وسيواصل "السوق العالمي" النمو بدونها، كما ستؤسس علاقات دولية جديدة "غير ليبرالية" لتكون بديلة للولايات المتحدة. لكن على المديين القريب والمتوسط فإن ترامب سيتسبب في مشاكل تجارية واقتصادية لأعدائه وكذلك حلفائه على حد سواء.
إذن، هل سيوقف قرار ترامب إيران التي أسست ما يشبه درع حماية لنزعتها التوسعية في الشرق الأوسط عقب توقيع الاتفاق؟ ففي الوقت الذي لم "يروّض" فيه احتمال الانفتاح على النظام الدولي إيران، فإن المرحلة المقبلة ستشهد تأثيرًا تحريضيًّا أكبر لإيران في وقت بدأت فيه إسرائيل استهداف المزيد من المواقع الإيرانية في سوريا على وجه الخصوص، وهذا ما يمكن أن نكون واثقين من حدوثه.
ليس من الصعب أن نخمن أنّ إيران ستنفذ عدة عمليات للرد بالمثل من خلال قوتها العسكرية المؤلفة من نحو 80 ألف عنصر في سوريا، لا سيما وأنها ستعاني بسبب ظروف اقتصادية صعبة في الداخل مع عودة العقوبات، وستعتبر أنّ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي يعتبر أشد تهديد يوجه نحو نظامها. وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه طهران عما تفعله بعد الهجمات الجوية التي نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على منشآت الأسلحة النووية المملوكة لنظام الأسد في سوريا، فإنها – أي إيران – سترد عقب هذا التطور الأخير على التهديدات الموجهة إليها بردود شديدة اللهجة كحيوان جريح ضيّق عليه صياده الخناق. وفي نهاية المطاف يمكن أن نقول إنّ احتمالية تصاعد حدة الاشتباكات في دول كسوريا والعراق ولبنان واليمن قد ارتفعت، فيما تشكلت مخاطر لنشوب اشتباكات جديدة هناك.
وباختصار يمكن القول إنّ أوباما نجح في التلاعب بالتوازنات الإقليمية، وحتى الدولية، من خلال ذلك الاتفاق. والآن فإنّ خلفه ترامب يفعل الشيء ذاته من خلال حملات معاكسة. فهذا الأخير يسعى، كما فعل أوباما، لإنعاش الاقتصاد الأمريكي، بشكل متسق مع وجهات نظره السياسية، لكنه بينما يفعل ذلك لا يلقي بالًا، كما كان سلفه، لبقية دول العالم، بل يهددها ويظهر للجميع أنه سيسحق كل من يعترض طريقه.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة