توقفت الحرب الإيرانية-الإسرائيلية، التي بدأت بهجوم إسرائيلي وأشعلت حالة استنفار في عموم المنطقة، بقرار “مؤقت” لوقف إطلاق النار صدر يوم الأربعاء. وقد اندلعت الحرب من جانب إسرائيل، لتنتهي بضربة صاروخية إيرانية.
بدايةً، علينا أن نقول: لا هدنة، لا سلام، لا تسوية يمكن أن تُلزم إسرائيل. فهذه الأمور تخص الدول، أما إسرائيل فليست دولة، بل تنظيم. هي أشبه بـ"دولة مارقة". وبالتالي، يمكن لها أن تتراجع عن اتفاق شاركت فيه مع المجتمع الدولي ووقّعت عليه، وتتحرك في الاتجاه المعاكس بعد ساعة فقط. يجب دائماً أن نضع هذا التحفظ في الحسبان.
من هذه الزاوية، لا يمكن الجزم إلى متى سيستمر وقف إطلاق النار، وهل سيتم تطبيقه فعلاً، وهل حققت إسرائيل أهدافها، وهل ترى إيران أنها ردّت بالشكل الكافي؟ الزمن كفيل بالكشف عن ذلك.
لكن ما شهدناه كان مثالاً مرعباً لما يمكن أن يُقدم عليه النظام الإسرائيلي، الذي أثار كراهية العالم بعد المجازر التي ارتكبها في غزة. ونعلم أن هذه الأمثلة ستتكرر وتتكاثر. كما أن جميع دول المنطقة تدرك ذلك وتستعد وفقاً له.
الجميع أدرك أن زمن "الجلوس على الطاولة" مع إسرائيل قد انتهى، وأن مرحلة الدفاع قد طُويت، وأن الهجوم بات الطريق الوحيد الآمن. وعليه، فإن مستقبلاً مظلماً ومخيفاً بدأ لإسرائيل. لا شك أن وقف إطلاق النار هذا تحقق بدعم غير متحمّس من ترامب لإسرائيل، وبسبب الحسابات المتعلقة بتكلفة توسّع الحرب على الولايات المتحدة، والذهول الذي تسببت به مشاهد الدمار داخل إسرائيل، إضافة إلى الدعم المكثف من تركيا وقطر.
في ليلة 13 حزيران/يونيو، شنت الطائرات والصواريخ الإسرائيلية هجوماً مفاجئاً على العاصمة الإيرانية طهران ومدن إيرانية أخرى. واستهدفت الهجوم كبار القادة العسكريين الإيرانيين، والعلماء النوويين، ومواقع عسكرية، ما شكّل صدمة عالمية. لكن الحقيقة أن هذا الهجوم لم يكن إسرائيلياً فحسب.
فقد تم تفعيل شبكات الاستخبارات الإسرائيلية/الأمريكية التي تم تأسيسها داخل إيران على مدار شهور وربما سنوات. جرى إيقاظ "الخلايا النائمة" وشاركت في الهجوم. كما أن عمليات الاغتيال التي استهدفت شخصيات إيرانية، وتحديد الأهداف المدنية والعسكرية، تم تنفيذها إلى حد كبير من قبل هذه الشبكات الداخلية. لقد تعرضت إيران لخيانة مهولة. خيانة تُعد من أبشع صور الخيانة الوطنية. لقد طُعنت من الداخل، ومن هنا جاء نجاح الهجمات الإسرائيلية.
في اليوم الأول، لم تتمكن إيران من فعل شيء. لقد شُلّت الدولة تماماً. كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف أهدافاً داخل طهران، في حين لم يصدر أي رد من الجيش الإيراني. وكانت بعض دول المنطقة قد فتحت أجواءها أمام إسرائيل. إلى درجة أن فرق الهجوم التي تسللت من الداخل أنشأت منشآت لإنتاج الطائرات المسيّرة، وتم تنفيذ الهجمات بالطائرات المسيّرة من داخل إيران نفسها. ووقعت هذه الهجمات في معظم المدن. وفي ظل هذه الظروف، فإن أي دولة، وأي نظام، سيتعرض للشلل. وأشارت مصادر إيرانية إلى أن عناصر دخلت من الحدود العراقية شاركت أيضاً في الهجمات.
وبعد أن تجاوزت إيران الصدمة الأولى، بدأت بالرد. أطلقت هجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ باليستية مباشرة على المدن الإسرائيلية والأهداف العسكرية. وكان من المتوقع أن تردّ إيران، لكن إسرائيل كانت تعتقد أن الرد سيكون محدوداً، وأن إيران تفتقر إلى القدرة على تنفيذ هجمات مؤثرة.
لكن الوضع لم يكن كذلك. تصاعدت الهجمات المتبادلة بشكل متسارع. لم يكن لدى إيران نظام دفاع جوي فعال، أو على الأقل لم يكن يعمل. وكانت الطائرات الإسرائيلية تقصف بحرية تامة. وردّت إيران بقوة، واستهدفت المدن الإسرائيلية، وعلى رأسها تل أبيب، بهجمات صاروخية عنيفة. وبعد فترة من إطلاق الصواريخ الباليستية، بدأت باستخدام صواريخ فرط صوتية لضرب إسرائيل.
عندها جاء دور الصدمة لإسرائيل. لم تكن تتوقع ضربة بهذا الحجم. لم تكن تعتقد أن إيران، التي انسحبت من المنطقة بعد سقوط النظام السوري، ما زالت تملك هذه القوة.
كانت الصواريخ تُطلق كل مساء وصباح، ولم يكن الإسرائيليون قادرين على الخروج من الملاجئ.
هذا ما دفع إسرائيل إلى تغيير موقفها. فالحرب التي بدأت بثقة بالنصر، تحولت إلى مأزق أثبت أن النصر ليس سهلاً، وأن وجود إسرائيل ذاته بات مهدداً. أغلقت المطارات والحدود، وبدأت بمحاولة منع الإسرائيليين من مغادرة البلاد. وقد شكّل هذا انهياراً نفسياً.
مع تغيّر مسار الحرب وانقلابه ضد إسرائيل، بدأ نظام نتنياهو بمحاولات جادة لإشراك الولايات المتحدة في الحرب. ضغطوا على ترامب، وفعّلوا نفوذ اللوبي اليهودي، وحاولوا إجبار ترامب، الذي سبق أن أعلن رفضه للحرب، على تغيير موقفه.
ويبدو أنهم قالوا له: “إذا استمر الوضع على هذا النحو، فقد يكون وجود إسرائيل نفسه في خطر. لا يمكننا تدمير المنشآت النووية الإيرانية تحت الأرض، فلتقم أنتم بذلك، وبهذا تنقذون إسرائيل.”
وقد تفاجأت إسرائيل، التي كانت واثقة من انضمام أمريكا إلى الحرب عند بدء الهجمات على إيران، من عدم تحقق ذلك. فعلى مدى كل الحروب السابقة، كانت الولايات المتحدة تنضم إلى الحرب دون قيد أو شرط، وتدعم وتوفر الغطاء العسكري والسياسي دون عناء. لكنهم فشلوا هذه المرة في إقناع ترامب. وكان هذا هو مصدر الذعر الحقيقي.
في نهاية المطاف، تم إقناع ترامب، لكن ليس للمشاركة في الحرب، بل لتنفيذ ضربة تأديبية واحدة ضد إيران. استخدمت الولايات المتحدة قاذفاتها الثقيلة لقصف ثلاث منشآت نووية إيرانية، وقالت إنها دمرتها، وأن إيران لم تعد قادرة على إنتاج سلاح نووي! لكن في الحقيقة، لم تحدث أضرار جسيمة. كانت هذه الكذبة ضرورية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
وقالت المصادر الإيرانية إنها كانت على علم مسبق بالهجوم، فقامت بإخلاء المنشآت واتخاذ الإجراءات اللازمة. ومن المحتمل أن ترامب نفسه هو من أوصل المعلومات إلى إيران. يتضح من هذا أن الولايات المتحدة نفذت هذه الضربة لحفظ ماء وجهها ووجه إسرائيل. وتخلص ترامب من الضغوط السياسية. وبعد الهجوم مباشرة قال: “دمرنا المنشأة النووية الإيرانية، والآن حان وقت السلام.”
هذا يؤكد أن الولايات المتحدة لا تريد الحرب، وتحاول منع توسّعها، وتدرك أن حرباً من هذا النوع لن تتحملها لا واشنطن، ولا إسرائيل، ولا المنطقة.
واللافت أن إيران، قبل أن تطلق صواريخها على قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر كجزء من ردها، قامت بإبلاغ كل من قطر والولايات المتحدة بذلك. فإيران لم تكن ترغب بانخراط أمريكا في الحرب، وكانت تفضّل حصرها في إطار المواجهة مع إسرائيل فقط. وفي الليلة التي شنت فيها إيران هذا الهجوم على القاعدة الأمريكية، وافقت كل من إيران وإسرائيل على وقف إطلاق النار.
وهكذا توقفت العاصفة التي استمرت 12 يوماً “مؤقتاً”. هل ستتجدد؟ هل ستتوسع؟ الزمن سيكشف ذلك. وقف إطلاق النار لم يحل شيئاً. إسرائيل ستواصل عدوانها، وإيران ستواصل برنامجها النووي.
لو اتسع نطاق هذه الحرب، لتجاوز حدود إسرائيل وإيران، لكانت ستؤدي إلى نتائج تهز خرائط النفوذ العالمي. والجميع كان يركّز بالفعل على هذا الجانب من المعركة. فسقوط إيران كان سيمنح الغرب مباشرة فرصة لمحاصرة باكستان من الشرق والغرب معاً. وهذا بدوره كان سيفشل جميع الحسابات الروسية والصينية في جنوب آسيا، ويجعل من الهند القوة الوحيدة المتصدّرة في المنطقة.
والهدف الرئيسي من دفع إسرائيل للهند من أجل مهاجمة باكستان كان في الأصل مرتبطاً بهذا التوازن. الصين على وجه الخصوص كانت ستتكبد أضراراً جسيمة جراء هذا التحول في موازين القوى. ففي كل حرب، هناك دوافع خفية لا نراها. فبعيداً عن العناوين الظاهرة من ملف نووي، أو صراع أيديولوجي، أو توتر عرقي أو مذهبي، توجد دوافع أعمق مخفية وراء الجبال.
إذا سقطت إيران، ومن بعدها باكستان، فإن آسيا برمّتها ستسقط. وكانت تركيا ستكون قد سقطت سلفاً في هذه المعادلة. وهكذا، تعود الولايات المتحدة وأوروبا ليحكما السيطرة من جديد على جنوب آسيا. وللغرب، الذي دخل في مرحلة انحدار، فإن هذا كان سيُعدّ نصراً استراتيجياً كبيراً.
لقد اتّبعت إسرائيل هذا المخطط بعناية. ومن هذه الزاوية أيضاً، تتضح لنا هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار. لكن في المشهد الحالي، هناك نتيجتان أساسيتان:
الأولى، أن إسرائيل ضُربت للمرة الأولى داخل أراضيها، وبشكل عنيف للغاية. ورأت جميع الدول أن ذلك ممكن فعلاً. وحتى فشلها في هزيمة مقاتلي عز الدين القسام في غزة كان أول هزيمة عسكرية لها. أما الآن، فالصورة الحالية تمثّل هزيمتها العسكرية الثانية.
ومن الآن فصاعداً، سيحاول الجميع ضرب إسرائيل داخل أراضيها. لا سيما أن العالم الغربي لم يعد متحمّساً لخوض حروب لا نهائية من أجل إسرائيل. وهذه أيضاً صورة أخرى من صور الهزيمة بالنسبة لإسرائيل.
أما النتيجة الثانية، فهي أن تكنولوجيا الصواريخ الإيرانية أثبتت أن أي حرب قادمة لن تكون على الحدود أو داخل الأراضي الإيرانية فقط. إذ باتت إيران قادرة على ضرب تل أبيب بسهولة، وكان بإمكانها تنفيذ هجمات أشد تدميراً لو أرادت. وهذا يعني أن مستقبلاً قاتماً ينتظر إسرائيل.
نظام نتنياهو جرّب كل الوسائل الممكنة لدفع الغرب نحو حرب عالمية، لكنه في الوقت ذاته كشف جميع نقاط الضعف والمخاوف لدى إسرائيل والغرب. لم يعد لدى إسرائيل في هذه المنطقة أي حرب يمكن أن تكسبها. وربما تكون أبواب الانهيار المرتقب قد فُتحت بالفعل بالكامل.
الخيار الوحيد أمام منطقتنا هو أن إسرائيل لا تملك حق تشكيل خرائط هذه الجغرافيا. ولن تملكه. ومهما حاولوا تأجيل ذلك، فإنهم سيواجهون هذه النتيجة في نهاية المطاف.
مرحبًا، تشكل التعليقات التي تشاركها على موقعنا مصدرًا قيمًا للمستخدمين الآخرين. يرجى احترام المستخدمين الآخرين والآراء المختلفة. تجنب استخدام لغة نابية أو مسيئة أو مهينة أو عنصرية.
كن أول من يترك تعليقًا.
انقر هنا لتلقي أهم الأخبار في اليوم عبر البريد الإلكتروني. اشترك هنا.
بعد إنشاء العضوية تكون قد وافقت على تلقي الإشعارات من مواقع مجموعة ألبيرق الإعلامية وعلى شروط الاستخدام وسياسة الخصوصية
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة