27 نوفمبر 2024... أولئك الذين يرتكبون الإبادة الجماعية في غزة، ويحاولون غزو لبنان، ويخططون لنقل الحرب بشكل منهجي إلى الشمال على الحدود التركية، وجدوا أنفسهم أمام مفاجأة لم تكن في حسبانهم.
عاصفة غير محسوبة بدأت تتشكل في شمال سوريا. وبينما كانت أنظارنا متجهة نحو الجولان، انقلبت أنظار العالم نحو حلب. وبينما كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف يوميًا جميع أنحاء سوريا، لم ترد كل من الحكومتين السورية والإيرانية على هذه الهجمات، بل قامتا بحشد قواتهما في شمال سوريا للقيام بهجمات هناك.
في هذه الأثناء، كانت تركيا تحذر كلاً من روسيا وإيران لوقف هذه الهجمات. ولكن التطور الذي قلب كل التوقعات بدأ من إدلب حيث قامت هيئة تحرير الشام فجأة بالتحرك نحو حلب.
خلال سير عملية أستانا بين تركيا وروسيا وإيران، جُمّدت بعض الملفات مؤقتًا. ولم تكتمل بعد المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا إلى إنشائها جنوب حدودها، في وقت استمرت فيه الولايات المتحدة في نقل آلاف الشاحنات المحملة بالأسلحة إلى تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي.
كما أن مقترح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة فتح حوار مع بشار الأسد لم يلقَ أي استجابة. في هذه الأثناء، كانت الحرب بين الغرب وروسيا عبر أوكرانيا تتصاعد لتصل إلى نقاشات حول استخدام الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وحتى الأسلحة النووية.
الحركة العسكرية التي بدأت من إدلب جاءت صادمة وغير متوقعة تمامًا. والأدهى من ذلك، أن الميليشيات الإيرانية والقوات السورية كانت تقوم منذ أسبوعين بحشد قواتها في المنطقة، وبدأت بشن هجمات على إدلب واستهدفت حتى الوحدات والقواعد العسكرية التركية. كان التوقع السائد هو تصعيد هذه الهجمات. وهنا تحديدًا بدأت الصدمة الأولى.
الصدمة الثانية تمثلت في عجز إيران وسوريا عن تقديم أي رد فعل مؤثر بعد أن أطلقت المعارضة السورية عملية ما يسمى "ردع العدوان". فقد انسحبت قوات النظام الإيراني والسوري من جميع الجبهات تباعًا، دون أن تبدي مقاومة تُذكر سوى اشتباكات محدودة لا تأثير لها.
المفارقة أن إيران، في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تقصف لبنان وسوريا، لم تستخدم الجيش السوري للرد عبر الجولان، بل انشغلت بنقل قواتها إلى الشمال في تحضير واضح لهجوم آخر.
والأكثر إثارة، أن النظام السوري كان يضع مواجهة المعارضة السورية فوق مواجهة إسرائيل، لدرجة استعداده لعقد هدنة مع إسرائيل لضمان استمراره في محاربة المعارضة!
هذا الواقع كشف بوضوح أن إيران أصبحت مستنزفة في المنطقة، وفقدت الكثير من نفوذها في سوريا، كما عجزت عن نقل ميليشياتها من لبنان إلى الأراضي السورية. إضافة إلى ذلك، ظهر انهيار الجيش السوري بشكل كامل.
تمكنت المعارضة السورية من السيطرة على حلب خلال ثلاثة أيام فقط. في المقابل، شهدت المدينة عام 2016 حربًا مدمرة قُتل فيها عشرات الآلاف، وهُجر مئات الآلاف، وتعرضت القوات المدعومة من تركيا لهزيمة ساحقة على يد الميليشيات الإيرانية، ما أدى إلى تحويل المدينة إلى أطلال.
في تلك الحقبة، قادت الميليشيات الإيرانية، بقيادة قاسم سليماني، ما يمكن وصفه بـ"الإبادة الطائفية". وكتبت حينها جملة تختصر المشهد:
"سيأتي يوم لن تجد فيه إيران من يمسح دموعها في هذه المنطقة."
كانت تلك العبارة تعكس حجم الكارثة والوحشية التي شهدتها المنطقة والتي وُقعت باسم إيران.
أما اليوم، فإن من سيطروا على حلب لم ينجروا وراء الانتقام أو المجازر الطائفية. بل أظهروا مستوى عاليًا من النضج السياسي والعسكري. وهذا النضج هو ما يمكن أن يشكل أساسًا حقيقيًا لبناء مستقبل سوريا ويضع اللبنة الأولى لدولة جديدة.
سوف نقيّم جميع الحروب في منطقتنا من منظور واحد: الهدف الأساسي من الحروب في لبنان وسوريا، ومن وصول إيران إلى حلب، ومن رسم خريطة تمتد من الحدود الإيرانية إلى البحر المتوسط لصالح تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي، هو نقل الحرب إلى حدود تركيا بل وحتى إلى داخل أراضيها!
هذا المخطط لا يقتصر على الجنوب، بل يشمل أيضًا البحر المتوسط، وبحر إيجه، وحتى البحر الأسود، ويُنفذ بطرق مختلفة.
على مدار خمسين عامًا، من غمروا تركيا في مستنقع الإرهاب، وحاولوا إخضاعها عبر الإرهاب، وهم ذاتهم "الحلفاء"، انتقلوا إلى مرحلة جديدة مع الحرب السورية، حيث فتحوا فعليًا جبهة تركيا. ورغم ذلك، خاضت تركيا كل هذه المعارك بمفردها، سواء داخل حدودها أو خارجها.
حققت القوى المعارضة انتصارات خاطفة، حيث سيطرت على حلب بسرعة مذهلة، وأحكمت قبضتها على إدلب بالكامل. وها هي الآن على وشك السيطرة على حماة. في غضون يوم واحد، سيطرت المعارضة على تل رفعت، التي كانت تحت سيطرة تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي. كما بدأت تتحرك نحو حماة وحمص ودمشق واللاذقية.
الأحداث تطورت بوتيرة متسارعة للغاية واستمرت بنفس السرعة. لم يتمكن أي طرف من الوقوف في وجهها. بدا عجز إيران واضحًا، وتردد روسيا أكثر وضوحًا، وانهيار نظام دمشق أصبح أمرًا واقعًا، مما خلق فراغًا كاملًا في سوريا.
حتى تنظيم بي كي كي/واي بي جي، ورغم الدعم العسكري الضخم الذي تقدمه الولايات المتحدة له، لم يتمكن من الصمود أمام المعارضة السورية في أي من جبهات القتال.
في ظل التطورات الأخيرة، التزمت تركيا الصمت، وكذلك روسيا والولايات المتحدة. وفي تركيا، بدأ يتردد الاعتقاد المعتاد بأن الولايات المتحدة وإسرائيل تقفان وراء ما يجري. كان هناك ميل قوي للدفاع عن الروايات الرسمية لروسيا وإيران ونظام الأسد. وساهم الصمت التركي في تعزيز هذا التصور وانتشاره بشكل واسع.
مع ذلك، لم يسبق لأي صراع أن شهد مثل هذا الالتباس الإعلامي والجماهيري بشأن المواقف. وبينما كانت هيئة تحرير الشام، تحت مظلة الجيش الوطني السوري، تحقق تقدمًا ملحوظًا، أثار غياب الدور الأساسي للجيش الوطني عن المشهد تساؤلات عديدة.
لو لم تتدخل قوات الجيش الوطني لاحقًا وتسيطر على تل رفعت، لكانت الأحداث تبدو وكأنها بالكامل من صنع هيئة تحرير الشام، مما كان سيعزز بقوة الادعاء بأن الولايات المتحدة وإسرائيل هما المحركان لهذه التحركات. ومع ذلك، لم يعد من الممكن الاستمرار في تفسير الأمور من خلال هذه القوالب النمطية الجاهزة.
في غضون أقل من أسبوع، تغيرت خريطة النفوذ والقوة في سوريا بشكل جذري. وخلال الأيام المقبلة، ستتضح معالم الأحداث في حماة وحمص، وما إذا كانت ستصل إلى دمشق، ومدى استقرار الوضع في اللاذقية، وما إذا كان سيتم إعادة تشكيل الخريطة التي يرسمها تنظيم بي كي كي/واي بي جي المدعوم من الولايات المتحدة وإسرائيل شرق الفرات.
1- قد تتمكن المعارضة من فتح ممر يربط الحدود التركية باللاذقية. في هذه الحالة، سيُفتح طريق مباشر بين تركيا ولبنان، مما يتيح إمكانية إدخال قوة جديدة لحماية لبنان. وهذا السيناريو بالتأكيد لن يخدم مصالح إسرائيل.
أو قد تسعى المعارضة إلى عزل اللاذقية تمامًا، والسيطرة على باقي الأراضي السورية، باستثناء هذه المنطقة.
هذه التحركات ترسم ملامح مرحلة جديدة في سوريا، حيث أصبح ميزان القوى أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
2- قد تتجه قوات المعارضة نحو دمشق مباشرة بعد السيطرة على حماة وحمص. ويتضح أن النظام السوري يفتقر حاليًا إلى القدرة الكافية للسيطرة حتى على العاصمة دمشق.
وفي حال عجزت إيران عن توفير الدعم اللازم، فمن غير المرجح أن تخاطر روسيا بشكل كبير للدفاع عن دمشق. قد يؤدي هذا الوضع إلى إعلان تأسيس سوريا جديدة بشكل رسمي.
3- من المحتمل أن تتوجه قوات المعارضة، وخاصة الجيش الوطني السوري، نحو شرق الفرات، الذي يمثل الجبهة الأكثر أهمية بالنسبة لتركيا.
الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة في هذا السياق سيكون العامل الحاسم. من غير الواضح ما إذا كانت هناك مفاوضات ستُجرى على الطاولة، ولكن من المؤكد أن سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، خاصة في عهد ترامب، ستؤدي دورًا محوريًا في تحديد المسار المستقبلي.
إذا تمكنت القوات السورية من تحقيق نجاحات في الجنوب، فلن يُسمح على الإطلاق بأن يتحول شرق الفرات إلى كيان مستقل بخريطة منفصلة. يتعين على تركيا أن تلتزم بعدم الجلوس إلى طاولة المفاوضات أو الدخول في أي مساومات بخصوص هذه المنطقة، وخاصة في ظل الظروف الراهنة.
انتهى حلم تنظيم بي كي كي/واي بي جي الإرهابي في الوصول إلى البحر المتوسط. كذلك انتهت خطط "ممر الإرهاب" التي سعت إلى إنشاء شريط شمالي يصلهم بالبحر. أُغلقت أبواب المتوسط أمامهم بشكل كامل، وسيتبعها قريبًا إغلاق باب شرق الفرات الذي تدعمه إيران. أولئك الذين حاولوا إعادة رسم خرائط منطقتنا سيواجهون القوة الحقيقية لشعوبها القادرة على إعادة رسم معالم المنطقة وفق إرادتها.
4- بغض النظر عن شكل التنظيم أو هيكليته، فإن الذين أشعلوا "عاصفة الشمال" هم أبناء حلب وسوريا
في ظل وجود ملايين المهجرين واللاجئين، وفي وقت تُفرض فيه على الشعب السوري مأساة شبيهة بمأساة غزة، لا يمكن تبرير أي مخطط يهدف إلى إبادة شعب أو طمس هويته. هذه الحقيقة تتفوق على جميع الحسابات السياسية والإقليمية.
توقيت استراتيجي مذهل... لا مجال لتراجع تركيا!
من منظور المخاوف الأمنية لتركيا، فإن الوضع الحالي يعزز استقرار الشمال ويؤمن الامتداد نحو البحر المتوسط. يتعين علينا مراقبة ردود أفعال الولايات المتحدة وروسيا وإيران، وكذلك الإمارات والسعودية. ومع ذلك، فإن ما حدث يظهر عبقرية استراتيجية في اختيار التوقيت. لم يكن بالإمكان اختيار لحظة أنسب من هذه لتنفيذ الخطط. في لحظة انشغال جميع الأطراف، تم استغلال الفراغ بطريقة بارعة للغاية.
لا يجب أن يُترك مصير الشعب السوري مجددًا ليُضحى به على طاولة المفاوضات الدبلوماسية. يجب على بشار الأسد أن يجلس مع المعارضة وتركيا على طاولة المفاوضات، وإلا فإن نهايته الحتمية هي الزوال. تركيا، حتى وإن وقفت وحيدة، يجب أن تثبت على مواقفها دون أي تراجع. العالم يشهد فراغًا كبيرًا في موازين القوى، وأي خطوة تتخذها تركيا الآن ستعزز من قوتها ونفوذها في هذا التوقيت الحاسم.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة