
حاولت إسرائيل تحويل هجوم حماس في 7 أكتوبر إلى فرصة لإرساء حرية حركة مطلقة لها في الشرق الأوسط. فمنذ عامين، تسعى إسرائيل عبر المجازر في غزة وسياسات الاستيطان في الضفة الغربية إلى تحويل احتلال فلسطين إلى فتح نهائي. وبفضل الدعم والرعاية الأميركية، قامت إسرائيل بتحديث قواعد الاشتباك في حربها الإقليمية.
وبعد لبنان وسوريا وإيران واليمن، ها هي تحاول فرض حقها في استخدام القوة الصلبة حتى على قطر. إن عجز هذه الدول عن الردع نتيجة الحماية الأميركية لإسرائيل خلق واقعًا جديدًا في ميزان القوى الإقليمي والقانون الدولي.
فسعي إسرائيل إلى تكريس حق مهاجمة أي هدف في أي زمان ومكان لا يعني فقط تجاهل سيادة الدول والقانون الدولي، بل يضر أيضًا بمصالح أميركا ذاتها. وهكذا، فإن مشهد عجز كل من دول المنطقة وأميركا أمام العدوان الإسرائيلي خلق مفارقة غير مسبوقة.
تستضيف قطر أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، ولعبت منذ 7 أكتوبر دورًا محوريًا في إدارة المفاوضات مع حماس. ورغم محاولات شخصيات مقربة من إسرائيل في الإعلام الأميركي إدانة قطر بسبب سماحها بوجود المكتب السياسي لحماس، واصلت الدوحة منذ ولاية ترامب الأولى تعزيز علاقاتها مع واشنطن.
فقد قدمت وعودًا باستثمارات تقدر بتريليونات الدولارات، وأهدت الرئيس ترامب طائرة بقيمة 400 مليون دولار، وسعت لتقديم نفسها كوسيط موثوق وفاعل في العديد من القضايا الإقليمية. بل إنها استضافت في عهد ترامب مفاوضات أميركا مع طالبان التي مهدت لخروج منظم من أفغانستان.
كما حاولت قطر من خلال دبلوماسية مكوكية أن تسهم في التوصل إلى حل دائم عبر مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار مع حماس. غير أن استهدافها بالعدوان الإسرائيلي كان بمثابة "مكافأة" لهذه الجهود، الأمر الذي أضر بمصداقية الولايات المتحدة نفسها. فكون قطر، التي تستضيف قاعدة العديد وتخضع عمليًا للمظلة الأمنية الأميركية، تتحول إلى هدف لحرب إسرائيل الإقليمية، يثبت أن قدرة واشنطن على حماية حلفائها مرهونة بقرارات تل أبيب.
وقد أعاد هذا الهجوم التأكيد على أن حكومة نتنياهو لم تكن تنوي أبدًا التفاوض بصدق حول تبادل الأسرى أو التهدئة، وأن وعود أميركا لحلفائها يمكن أن تُنسف بسهولة بقرار إسرائيلي.
بعد 7 أكتوبر، اعتقدت حكومة نتنياهو أنها حصلت على فرصة تاريخية ضد حماس وحزب الله وإيران، فحوّلت حملة التطهير العرقي في غزة إلى حرب إقليمية.
فقد وسّعت حربها ضد إيران لتشمل وكلاءها الإقليميين، وأعلنت أن حماس لن تكون آمنة في أي مكان، وغيّرت قواعد الاشتباك وفقًا لذلك. وكلما وجدت نفسها محاصرة داخليًا، صدّرت إسرائيل الصراع إلى لبنان وسوريا وإيران واليمن، لتجر واشنطن باستمرار إلى أتون حربها الإقليمية، وقد نجحت إلى حد كبير.
غير أن الولايات المتحدة، التي لا تريد حربًا جديدة في الشرق الأوسط، اضطرت إلى الاقتراب من خيار استخدام القوة ضد إيران، ما أثار قلقًا بالغًا لديها. حتى قاعدة ترامب الشعبية أبدت اعتراضًا على هذا الواقع، وهو ما كشف مجددًا مدى عجز السياسة الأميركية عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. وأثبت الهجوم على قطر أن الدور "المنظّم" الذي تدّعيه واشنطن في المنطقة بات مفرغًا تمامًا من مضمونه.
وإذا كان يُنظر إلى إعادة صياغة إسرائيل لقواعد استخدام القوة في المنطقة بشكل غير قانوني واعتباطي كنجاح عسكري، فإن هذا النجاح عمّق أزمة الشرعية السياسية لإسرائيل إلى حد غير مسبوق. فالدولة التي جعلت من التطهير العرقي والمجازر ومحاولات الضم وسائل عادية لإدارة الحكم، وأخذت تضرب من تشاء في أي مكان، قوّضت في الوقت نفسه مزاعم أميركا بتأمين الحماية لحلفائها. واليوم، لا تواجه إسرائيل أزمة شرعية فقط في العالم العربي، بل تعيش أعمق أزماتها حتى في العواصم الغربية.
ومع ذلك، ترفض الإقرار بأن الفوز بالقوة الغاشمة لا يمكن أن يؤسس نظامًا مستدامًا على المدى المتوسط والبعيد. فالإصرار على إدامة الفوضى وعدم الاستقرار وحالة الحرب المستمرة لا يسمح بقيام دولة قومية حديثة قابلة للبقاء. كما أن إسرائيل بتصرفاتها هذه تقوّض أيضًا رغبة واشنطن في الحد من نفوذ الصين وروسيا في المنطقة، وتدفع دولًا مثل قطر إلى البحث عن بدائل، وهو أمر يتعارض مع المصالح الأميركية بلا شك.
إن سياسات الاحتلال والحرب الإسرائيلية، التي كشفت خلال العامين الماضيين أزمة النظام الدولي وعجز السياسة الأميركية، عمّقت بدورها أزمة الشرعية السياسية للغرب. فالدعم الغربي لإسرائيل أدى إلى تراجع لا رجعة فيه لأولويات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحول إلى ما يتجاوز "سياسة شرق أوسطية" عادية. وإذا كان هذا الدعم قد شلّ السياسيين الغربيين، فإنه جعلهم يخسرون الرأي العام الغربي. أما إسرائيل، فتواسي نفسها بالقول إن المؤسسات الدولية لطالما كانت "عدوة لها".
غير أن حقيقة أن "دولة فقدت شرعيتها الدولية" لن تتمكن أبدًا من تحقيق استقرار أو سلام على المدى الطويل، تعني أن إسرائيل ستواصل توليد تكاليف باهظة للنظام الدولي وللسياسة الأميركية على وجه الخصوص.
والسؤال الحاسم هنا هو: هل ستلتزم إدارة ترامب حقًا بشعار "أميركا أولًا"؟ وهل ستجرؤ على تحمّل الكلفة السياسية لكبح جماح إسرائيل؟ لأن أميركا التي لا تفي بوعودها، ولا تحمي حلفاءها، ولا تطبّق القوانين الدولية حين يتعلّق الأمر بإسرائيل، ستجد نفسها تتسارع في الانسحاب من المنطقة.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة