قدير أوستون هو منسق مركز الأبحاث سيتا في واشنطن. أكمل دراسته الجامعية في قسم التاريخ بجامعة إسطنبول، ونال درجة الماجستير في جامعة بيلكنت، والدكتوراه في جامعة كولومبيا. قام أوستون بإلقاء محاضرات في جامعتي كولومبيا وجورج ميسون حول تاريخ الشرق الأوسط والتاريخ الإسلامي وتاريخ الحضارة الغربية والعولمة.
إن عدم تضمين الرئيس ترامب زيارة لإسرائيل ضمن جولته الخليجية، سواء قبلها أو بعدها، يُضعف الصورة التقليدية التي تُظهر العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية على أنها "لا تتزعزع". وبالطبع، المسألة ليست مجرد زيارة، بل إن ما تناقلته وسائل الإعلام حول رفض ترامب لقاء نتنياهو يُشير إلى وجود حالة أعمق من الاستياء خلف الكواليس.
ومن الحقائق الواضحة أن العملية الإسرائيلية والإبادة الجماعية في غزة باتت تُناقَش داخل الرأي العام الأمريكي بمستوى غير مسبوق في التاريخ.
وفي خضمّ هذه المرحلة، يمكن القول إن كلًّا من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل ونتنياهو نفسه قد استنفدوا كامل رصيدهم، ما أدى إلى تآكل عميق في شرعيتهم داخل السياسة الأمريكية.
ولمّا لاحظ ترامب حجم الفاتورة التي يتكبّدها بايدن مقابل دعمه غير المشروط لإسرائيل، قرر أن يتجاوز إسرائيل تمامًا، لا سيما بعد أن أخفق في تحقيق ما يريده من نتنياهو.
الخطوات التي اتخذها ترامب في الأسابيع الأخيرة متجاوزًا حكومة نتنياهو تؤكد أن سياسة "أمريكا أولًا" ستُكلّف إسرائيل ثمنًا باهظًا أيضًا.
فأحدث هذه الخطوات وأكثرها حساسية كانت تفاوض الولايات المتحدة بشكل مباشر مع حركة حماس من أجل إطلاق سراح مواطن أمريكي تحتجزه كرهينة، دون التنسيق مع إسرائيل.
ومن بين الخطوات الأخرى التي أغضبت نتنياهو، كانت المحادثات المباشرة بين واشنطن وجماعة الحوثيين في اليمن، والتي أسفرت عن وقف لإطلاق النار، إلى جانب تحرّك أمريكا بشكل مستقل في ملف المفاوضات النووية مع إيران.
ترامب لا يريد أن يُضيّع أي فرصة يمكن أن تُترجم إلى نصر داخلي سياسي، ولا يتردد في التفاوض مع أي طرف يمكن أن يحقق له هذا الهدف.
ومن منطلق التزامه بأيديولوجيا "أمريكا أولًا"، يرفض ترامب أن يتنازل عن قدرة الولايات المتحدة على التحرك منفردة. ويتبنّى ترامب نهجًا مختلفًا عن الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه، والذين بنوا سياستهم في الشرق الأوسط على أساس إعطاء الأولوية لإسرائيل.
ورغم أنه اتخذ خطوات مؤيدة لإسرائيل بشدة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة لها، فإنه كان يطمح إلى حلّ القضية الفلسطينية من خلال اتفاقيات مثل "اتفاقيات إبراهيم" و"صفقة القرن". ومن وجهة نظره، فإنه قدّم لإسرائيل ولأنصارها الإنجيليين أكثر مما طلبوا، وكان ينتظر منهم بالمقابل مكاسب سياسية.
أما بايدن وغيره من الرؤساء، فكانوا يرون في دعم إسرائيل ضرورة استراتيجية وأيديولوجية، لكن ترامب لا يرى أي معنى لهذا الدعم ما لم ينتج عنه مكاسب ملموسة.
مؤخرًا، أعلن نتنياهو عن خطط لاحتلال غزة، وحاول إقناع ترامب بالمشاركة في هذه الخطة من خلال تخصيص دور للشركات الأمريكية في توزيع المساعدات، في محاولة لإغرائه سياسيًا واقتصاديًا. لكن مقارنةً بوعود الخليج بتريليونات الدولارات من الاستثمارات في الولايات المتحدة، فإن هذا العرض يبدو مجرد فتات.
عدم استعداد نتنياهو لمنح ترامب لقب "من أنهى القضية الفلسطينية" ترك ترامب في حالة من الإحباط. كما أن إدراكه لعدم واقعية تحويل غزة إلى مشروع "مقاولات كاملة" جعله يرى في الأمر معادلة "تكلفة عالية مقابل عائد منخفض".
ومع استمرار نتنياهو في معارضة الاتفاق النووي مع إيران من جهة، وتصعيده للهجمات في اليمن ومحاولاته لتحويل احتلال غزة إلى أمر دائم من جهة أخرى، بات واضحًا أن السياسة الإسرائيلية تُقيد حرية الحركة الأمريكية بشكل متزايد.
وبالنسبة لترامب، الذي ينظر إلى الأمور من زاوية "أمريكا أولًا، ثم إن اقتضى الأمر مصلحة إسرائيل"، يظهر نتنياهو كطرف لا يقدّم إلا الأكلاف دون أي مكاسب سياسية تُذكر.
إن اتخاذ موقف متحفّظ تجاه الحكومة الإسرائيلية، أو تجنّب تنسيق السياسات الإقليمية معها، لا يحمّل الساسة الأمريكيين تكلفة كبيرة على الصعيد الداخلي.
ويُعزى جانب كبير من ذلك إلى قوة ترامب السياسية في هذه المرحلة، لكن يمكن أيضًا القول إن محاولات إسرائيل المستمرة لوصم كل نقد يُوجَّه إليها بشأن عدوانها على غزة بأنه "معاداة للسامية" – عبر جماعات الضغط واللوبيات – قد انقلبت ضدها وأتت بنتائج عكسية.
صحيح أن إدارة ترامب اتخذت موقفًا متشددًا ضد التظاهرات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية، لكن من الواضح أن دوافع ترامب لم تكن تلبية لمطالب اللوبي الإسرائيلي، بل رغبته في تجريم النشاط الطلابي الأجنبي واستخدامه كأداة للضغط على الجامعات الليبرالية، وتهديدها بحرمانها من الدعم الفيدرالي، بهدف تقليم أظافر التيار الليبرالي في أبرز الجامعات الأمريكية.
في ظل عملية التطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزة، بات من المستحيل حتى على وسائل الإعلام الأمريكية إنكار ما تقوم به إسرائيل.
أما الدعم غير المشروط الذي قدمه بايدن، فقد أدى إلى فقدان الديمقراطيين دعمًا انتخابيًا حاسمًا قد يُكلّفهم خسارة الرئاسة.
ورغم تجاهله جميع الدعوات إلى وقف إطلاق النار، ورفضه الدخول في مفاوضات جدّية لتحرير الرهائن، وافق نتنياهو على التهدئة فقط استجابةً لنداء من الرئيس المنتخب حديثًا، دونالد ترامب، في محاولة للحفاظ على علاقات طيبة معه.
لكن حكومة نتنياهو لم تنفذ المرحلة الثانية من اتفاق التهدئة، وعادت لتعلن خطط احتلال جديدة، ما جعلها تلعب الدور الرئيسي في تنامي مشاعر العداء لإسرائيل داخل الرأي العام الأمريكي.
بل إننا نعيش فترة يصعب تذكّر مثيل لها، حيث بات الدعم المالي والعسكري لإسرائيل موضوعًا مثيرًا للجدل إلى هذا الحد.
لقد تلقّت صورة إسرائيل ضربة عميقة في الوعي الأمريكي، وأدرك ترامب أن اتخاذه موقفًا ضدها لن يترتب عليه أي تكلفة سياسية تُذكر.
أما تدمير غزة وتحويلها إلى منطقة غير قابلة للعيش، فقد كلّف إسرائيل تعاطف الرأي العام الأمريكي، الذي ربما وصل إلى أدنى مستوياته تاريخيًا.
يمكن القول إن تجاهل ترامب لإسرائيل سببه رغبته في استعادة حرية الحركة للولايات المتحدة في سياسات المنطقة، وعدم حصوله من نتنياهو على نصر سياسي يرضيه، إضافة إلى يقينه بعدم دفعه ثمنًا سياسيًا لذلك.
ولا شك أن ترامب قد يتّبع في المستقبل سياسات داعمة بشدة لإسرائيل، فهذا أمر غير مستبعد. لكن، كما عبّر في مؤتمره الصحفي الشهير بالبيت الأبيض، فإنه يرى إسرائيل حليفًا يعتمد على المساعدات الأمريكية، ويجب أن تكون "عقلانية" في سلوكها الإقليمي.
أما نتنياهو، الذي اعتاد على رؤساء أمريكيين يعتبرون دعم إسرائيل مسؤولية أخلاقية وضرورة أيديولوجية، فسيجد من الآن فصاعدًا صعوبة في التعامل مع واشنطن وفق شروطه الخاصة.
وتُشير تصريحات ترامب بعد اغتيال قاسم سليماني – حيث قال إن نتنياهو كان يهدّد بمهاجمة إيران، لكنه تراجع عندما أصبح الأمر جديًا – إلى وجود هوّة حقيقية في الثقة بين الزعيمين.
وعندما قرّر ترامب التفاوض مباشرة مع إيران، وحماس، والحوثيين دون التنسيق مع إسرائيل، كان يُرسل رسالة واضحة مفادها أنه لا يثق بحكومة نتنياهو.
ورغم أن ترامب لا يبدو أنه يملك رؤية لتغيير شامل في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، فإن سياسته المعروفة بـ"أمريكا أولًا" تفرض عليه أن يضع مسافة مع تل أبيب، وهو ما يبدو ملتزمًا به في الوقت الراهن.
مرحبًا، تشكل التعليقات التي تشاركها على موقعنا مصدرًا قيمًا للمستخدمين الآخرين. يرجى احترام المستخدمين الآخرين والآراء المختلفة. تجنب استخدام لغة نابية أو مسيئة أو مهينة أو عنصرية.
كن أول من يترك تعليقًا.
انقر هنا لتلقي أهم الأخبار في اليوم عبر البريد الإلكتروني. اشترك هنا.
بعد إنشاء العضوية تكون قد وافقت على تلقي الإشعارات من مواقع مجموعة ألبيرق الإعلامية وعلى شروط الاستخدام وسياسة الخصوصية
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة