قدير أوستون هو منسق مركز الأبحاث سيتا في واشنطن. أكمل دراسته الجامعية في قسم التاريخ بجامعة إسطنبول، ونال درجة الماجستير في جامعة بيلكنت، والدكتوراه في جامعة كولومبيا. قام أوستون بإلقاء محاضرات في جامعتي كولومبيا وجورج ميسون حول تاريخ الشرق الأوسط والتاريخ الإسلامي وتاريخ الحضارة الغربية والعولمة.
تشهد الأسواق الدولية حالة من الهلع الكامل إزاء التصريحات التي أدلى بها ترامب بشأن الرسوم الجمركية. فقد أدت الخسائر التي بلغت تريليونات الدولارات في البورصة الأميركية إلى ضرب الأسواق الآسيوية والأوروبية كذلك. يبدو أن الهدف الأكبر لترامب، الذي لا يتردد في تقويض مبادئ التجارة الحرة الدولية، هو إعادة صياغة العلاقات التجارية مع الصين. غير أننا نمر الآن بمرحلة من التصعيد المتبادل بدلاً من الوصول إلى أرضية اتفاق ملموسة. فالرسوم الجمركية الجديدة البالغة %34، التي أُعلنت بالإضافة إلى الرسوم السابقة البالغة %20، تهدف إلى إخضاع الصين، التي تتمتع بتبادل تجاري مع الولايات المتحدة يناهز نصف تريليون دولار. وبعدما ردت الصين بفرض رسوم جمركية بنسبة %34، صعّد ترامب الموقف أكثر مهددًا بفرض رسوم إضافية بنسبة %50.
وفي ظل التخلي الكامل عن سياسة تجارية عقلانية، واتباع نهج الحرب التجارية عبر الرسوم الجمركية، تعيش الأسواق الدولية مرحلة من الاضطراب العارم، إذ بات من المستحيل رؤية ما ينتظرها مستقبلاً. كما يشير تعثر المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والصين وعدم قيامها على أرضية موضوعية إلى أن التوصل إلى اتفاق في المدى القريب يبدو أمرًا غير وارد.
في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يمتلك كل طرف مزايا وعيوبًا خاصة به. تمتلك الولايات المتحدة أكبر اقتصاد وأضخم سوق استهلاكية في العالم، مما يجعل الصين، التي تعتمد على التصدير لتحقيق نموها الاقتصادي، أكثر تبعية نسبية لها. فالرسوم الإضافية التي فرضها ترامب تؤثر سلبًا وبشكل مباشر على الاقتصاد الصيني، الذي يحتاج إلى التصدير إلى السوق الأميركية. كما أن اعتماد الاقتصاد الأميركي على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية يمنحه ميزة إضافية في هذه الحرب.
ومع ذلك، فإن تحوّل الصين منذ فترة طويلة إلى مركز سلاسل الإمداد العالمية، واعتماد كثير من الشركات الأميركية على الإنتاج داخل الصين، يحول هذه المزايا الأميركية إلى مزايا نسبية وليست مطلقة. حاولت الشركات الأميركية منذ بداية عهد ترامب تحويل سلاسل التوريد الخاصة بها خارج الصين، ويُقال إن هذا تحقق جزئيًا. غير أن استهداف ترامب، في تصريحاته الأخيرة، لدول مثل فيتنام وكوريا الجنوبية والهند والمكسيك — التي يمكن أن توفر بدائل ضمن سلاسل التوريد — قد أدى إلى دفع هذه الدول نحو الصين بدلًا من إبعادها عنها، مما يصعّب مهمة عزل الصين.
إن حاجة كل من الاقتصادين إلى الآخر من زوايا مختلفة تخلق ديناميكية من الاعتماد المتبادل، ما يجعل الحرب التجارية أكثر تدميرًا.
عند النظر إلى مزايا الصين، يتبين أن قدرة بكين على التدخل في التوازنات الاقتصادية تمنحها قدرة أعلى على امتصاص الصدمات الخارجية. وكما ذكرت الصين في بياناتها الرسمية، فإن الضغوط الأميركية قد تجعل الاقتصاد الصيني أكثر مرونة ومتانة.
وفي مواجهة هذه الضغوط، يمكن لترامب، مستخدمًا سلطته التنفيذية، اتخاذ خطوات هجومية دون الحاجة إلى دعم الكونغرس. ومع ذلك، فإن هذه الخطوات العقابية التي يتخذها قد تكون مؤقتة وعرضة للزوال لعدم استنادها إلى سياسة تجارية شاملة مدعومة بموافقة تشريعية. إضافة إلى ذلك، فإن ردود الفعل العنيفة من الأسواق الأميركية، كما ظهر مؤخرًا في الانهيارات الدراماتيكية للبورصة، تضيق من هامش المناورة السياسية أمام ترامب.
هذه الفروقات البنيوية تمنح الصين ميزات إضافية في هذه الحرب التجارية، مما يعزز موقفها نسبيًا في مواجهة الولايات المتحدة.
لا يزال الموقع الريادي للاقتصاد الأميركي في مجال المنتجات التكنولوجية المتقدمة يشكل ميزة مهمة. فالولايات المتحدة، المتفوقة خصوصًا في مجالات البرمجيات وأشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، ما زالت تملك الأفضلية من حيث الابتكار، على الرغم من التقدم الذي حققته الصين في مجال التطبيق. ومع ذلك، هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن الصين، بفضل الاستثمارات الضخمة التي قامت بها في السنوات الأخيرة، بدأت تسد الفجوة، لا سيما في مجال تكنولوجيا الروبوتات. كما يمكن القول إن الجهود الرامية إلى منع شركات مثل "هواوي" من دخول الأسواق الغربية قد حققت نجاحًا كبيرًا.
ورغم تفوق الولايات المتحدة في المجال التكنولوجي، إلا أن الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب دفعت الصين والدول الأوروبية إلى تنفيذ خطواتها التكنولوجية الخاصة. وقد يؤدي هذا الوضع، على المدى المتوسط والطويل، إلى إضعاف القيادة التكنولوجية الأميركية، وإلى تراجع حصة الشركات الأميركية في الأسواق العالمية. ومثالًا على هذا التغيير في السوق، يمكن الإشارة إلى الضربة التي تلقّتها مبيعات "تسلا" بسبب ردود الفعل السلبية تجاه إيلون ماسك، مقابل الانطلاقة التي حققتها منتجات شركات مثل "BYD" الصينية.
وأخيرًا، من الممكن القول إن المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة من خلال التحالفات الجيوسياسية التي أنشأتها عبر اتفاقيات متعددة الأطراف مثل الناتو، واتفاقية USMCA (الاتفاقية بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا)، ومجموعة كواد، وتحالف أوكوس، بدأت تتآكل تدريجيًا. وفي المقابل، تبدو الصين أكثر وحدةً فيما يتعلق بالتحالفات الإقليمية والعالمية، كما أن علاقاتها مع دول مثل روسيا وكوريا الشمالية وإيران تعاني من العديد من المشاكل، وهو ما يُعد نقطة ضعف بالنسبة لها.
مع ذلك، من المرجح أن تؤدي تحركات ترامب في هذا المجال إلى عزل الولايات المتحدة أكثر فأكثر. فالإدارة الأميركية، التي تعاملت بخشونة مع علاقاتها التحالفية مع أوروبا والمكسيك وكندا، قد تضعف المزايا الجيوسياسية لواشنطن في مواجهة بكين. وإذا استمرت هذه التوجهات، فقد نشهد تخلي الولايات المتحدة طوعًا عن الكثير من مزاياها أمام الصين في المدى المتوسط والبعيد. وقد يؤدي إضعاف التحالفات، التي تشكل أساس القيادة العالمية الأميركية، إلى فتح الطريق أمام الصين لتعزيز علاقاتها مع دول أخرى.
ليس من الواقعي القول إن الولايات المتحدة ستنتصر بسهولة في الحرب التجارية مع الصين، إذ إن الاقتصاد العالمي اليوم يتميز بترابط معقد بين الدول والتحالفات، ما يجعل الاعتماد المتبادل هو السمة الأساسية له. وعند النظر إلى العلاقات الأميركية-الصينية، نجد أنها بلغت درجة متقدمة جدًا من الترابط في مجالات الاستثمار، والديون، والتجارة، والتوازنات الجيوسياسية.
لذلك، من غير الممكن أن تؤثر الخطوات التي يتخذها ترامب سلبًا على الدول المستهدفة وحدها دون أن تنعكس سلبًا على الاقتصاد الأميركي أيضًا. فالهجمات التي تشنها واشنطن على الصين سيكون لها بالضرورة آثار سلبية على التجارة الأميركية، وعلى إنتاج الشركات العالمية، وعلى الصادرات، والعمالة، والقدرة على الاستدانة.
وبالتالي، فإن رفع الرسوم الجمركية إلى مستويات غير عقلانية لا يمكن اعتباره استراتيجية شاملة قادرة على بناء اقتصاد أميركي أكثر اكتفاءً ذاتيًا مع الحفاظ على قدراته التنافسية والإبداعية. والأسوأ من ذلك أن ترامب لم يعد يخوض الحرب التجارية ضد الصين وحدها، بل أصبح يقاتل تجاريًا مع معظم دول العالم، مما يجعل أهدافه أكثر صعوبة في التحقيق.
مرحبًا، تشكل التعليقات التي تشاركها على موقعنا مصدرًا قيمًا للمستخدمين الآخرين. يرجى احترام المستخدمين الآخرين والآراء المختلفة. تجنب استخدام لغة نابية أو مسيئة أو مهينة أو عنصرية.
كن أول من يترك تعليقًا.
انقر هنا لتلقي أهم الأخبار في اليوم عبر البريد الإلكتروني. اشترك هنا.
بعد إنشاء العضوية تكون قد وافقت على تلقي الإشعارات من مواقع مجموعة ألبيرق الإعلامية وعلى شروط الاستخدام وسياسة الخصوصية
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة