ما الذي جرى لأوروبا حتى بدأت تفرض عقوبات متتالية على إسرائيل؟ أصبحت تتحدث عن قطع العلاقات التجارية، وفرض الحصار الاقتصادي، واستدعاء السفراء، ووقف بيع الأسلحة.
باستثناء دول مثل إسبانيا وإيرلندا، اللتين تبنّتا موقفًا مشرّفًا من البداية إزاء الإبادة الجماعية في غزة، فقد تحركت دول أخرى فجأة قبل يومين.
فرنسا، بريطانيا، النرويج، السويد، هولندا وغيرها، بدأت باتخاذ قرارات صادمة، وبدأت تطالب مؤسسات الاتحاد الأوروبي باتخاذ خطوات جذرية.
ما الذي يجري؟ هل تُعلن أوروبا العداء لإسرائيل؟
أولًا، نحن أبناء هذه الجغرافيا لا نؤمن بصدق أوروبا. نعلم أنهم لا يوفون بوعودهم، وأنهم مستمرون في دعم إسرائيل سرًّا أو علنًا، وأنهم يعتبرون شعوب هذه المنطقة عدوًّا. كما نعلم أن تواقيعهم حاضرة في كل دمار حلّ بمنطقتنا خلال الثلاثين عامًا الأخيرة.
نعرف كيف قسّموا الدولة العثمانية واستعمروا كل شبر من هذه الأرض، وكيف مزقوا الدول بخططهم الجهنمية خلال القرن العشرين، وأبادوا الملايين.
ندرك أن الإسلاموفوبيا أحد المكونات الجوهرية في الجينات السياسية لأوروبا، وأن مشروع الاتحاد الأوروبي يقوم أصلًا على أساس ديني وهوياتي. ونفهم أنهم تركوا تركيا تنتظر على أبوابهم طيلة خمسين عامًا لهذا السبب. التاريخ الأوروبي على مدى ألف عام أعيد تشكيله على أساس العداء للإسلام والأتراك.
لذلك لن نقع في فخ تصديق أنهم يتحركون اليوم انطلاقًا من آلام المستضعفين في غزة. لن نكون من أولئك الذين يُخدَعون أو يُقنَعون بسهولة.
ندرك تمامًا أن التاريخ والجغرافيا لا تُصاغان بشعارات "النوايا الحسنة". نحن مستعدون لواقع القرن الحادي والعشرين، حيث تتشكّل معادلات القوة العالمية انطلاقًا من حقائق أكثر صلابة وقسوة.
في مقالتي السابقة، قلت: "يجب بدء انهيار إسرائيل". وفي الواقع، لقد بدأ بالفعل. الدول الأوروبية وبريطانيا اتخذت قرارات تضرب إسرائيل في صميمها. من المرجح أن العالم كله تساءل: "ما الذي يحدث؟"
إليكم ما جرى خلال يوم واحد فقط:
إسبانيا قالت: "إسرائيل دولة ترتكب إبادة جماعية، ولا يمكننا التعامل مع دولة كهذه"، وأقرت قانونًا يمنع بيع الأسلحة لإسرائيل تمامًا.
بريطانيا استدعت السفير الإسرائيلي في لندن وأبلغته تحذيرًا رسميًا، وعلّقت كل علاقاتها التجارية مع إسرائيل.علمًا بأنها كانت ثاني أكبر مزود عسكري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة خلال مجازر غزة.
والآن، يُطرح سؤال: هل ستتواصل أشكال الدعم السرية؟ وسيتطلب هذا مراقبة دقيقة.
فرنسا طالبت بتعليق مفاوضات الشراكة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي.
وكان ماكرون قد خرج في الأيام الأخيرة بتصريحات خارجة عن المألوف بشأن مذابح غزة، مركّزًا على ضرورة "إيقاف إسرائيل".
في الوقت ذاته، دعت النرويج والسويد وهولندا إلى فرض عقوبات اقتصادية، وطالبت بفرض عقوبات على وزراء إسرائيليين.
كل هذا وأكثر حدث خلال يوم واحد. لأول مرة في التاريخ نشهد موقفًا كهذا. الدعم الأوروبي الذي كان يشكل العمود الفقري لإسرائيل بدأ يتفكك.
النفوذ الأمريكي يتراجع. الدوائر الإسرائيلية تعلّق: "أصبحنا في عزلة تامة، تسونامي قادم نحونا".
إسرائيل أهانت أوروبا، واستخدمتها سلاحًا، وأشركتها في الإبادة وأنهكتها. فلماذا أقدمت أوروبا على هذه الخطوات؟
للمرة الأولى منذ زمن طويل، يحاول الاتحاد الأوروبي الظهور كقوة فاعلة. لقد فقد موقعه بشكل كبير في خارطة القوى العالمية الجديدة.
صعود الولايات المتحدة وروسيا والصين وتركيا جعل من أوروبا كيانًا قزمًا، وأثار قلق دولها.
ورأت أوروبا أن دفاعها المستميت عن إسرائيل يضيّق عليها المساحة، ويضرّ بعلاقاتها مع القوى الصاعدة. قادة أوروبا ونخبها الحاكمة شاركوا إسرائيل في ارتكاب الإبادة، وسُجّلت أسماؤهم في التاريخ بذلك. نتنياهو استغلّهم كسلاح يخدم مصالحه الشخصية، بل أهانهم أثناء ذلك.
في وقت كان ترامب يحاول النأي بنفسه عن "ذنوب" فترة بايدن من خلال اتخاذ مسافة من نتنياهو، كانت أوروبا تصطف خلف إسرائيل بشعارات عاطفية عمياء، وهو ما كان غير مبرر أصلًا. ويبدو أنهم، مثل ترامب، باتوا يسعون للخروج من الزاوية الضيقة التي حشرتهم فيها إسرائيل.
في الوقت الراهن، يُروّج حلّ "الإطاحة بنتنياهو" كخيار لإنقاذ الموقف من قِبل كل من أمريكا وأوروبا. لكن هذا لن يكون كافيًا، ولن يتحقق بالسهولة المتوقعة. فمشكلة أمريكا وأوروبا لم تعد نتنياهو فقط، بل أصبحت إسرائيل ذاتها.
طالما استمروا في دعم إسرائيل، فإنهم سيواصلون خسارة النفوذ والمواقع في هذه المنطقة. فمن شمال أفريقيا إلى إندونيسيا، ستتراجع قدرتهم بشكل دراماتيكي على التأثير في محور العالم الإسلامي. وأعتقد أنهم باتوا يدركون ذلك. لذا فإن مواقفهم الخارجة عن المألوف لن تتوقف عند حدود "موت نتنياهو السياسي". سيكتشفون هذا الواقع، وسيتعين عليهم التصرّف وفقًا له.
الذين يقرأون الواقع بعقلية قرن مضى، ويُقيّمون توازنات القوة بمعادلات القرن العشرين، سيواجهون صعوبة في فهم ما يجري.
فلم تعد هناك ظروف القرن العشرين لا في الشرق الأوسط، ولا في أفريقيا، ولا في جنوب آسيا. بل إن القوة الآن تتراكم في كامل هذا الحزام الجغرافي الجديد.
باتت أمام الدول خيارات كثيرة. هناك دول جديدة يمكن عقد الشراكات معها، رؤوس أموال جديدة، تكنولوجيا جديدة، وقوى صاعدة. هذا الإقليم، الذي ظلّ رهينة لأمريكا وأوروبا طيلة قرن، يتحرك اليوم بقوة على طريق استقلاله واختيار مساره الخاص.
إذا استمرت التبعية لأجندة إسرائيل، فإن أوروبا ستواصل الانكماش والانغلاق على قارتها، فيما ستتجه أمريكا نحو التراجع والتحول إلى قوة إقليمية.
حتى الصعود الاستثنائي للصين وحده يكفي ليرعب هذين القطبين، فما بالك حين تعود دول كتركيا لتصبح مركز قوة إقليمي، ما سيغيّر قواعد اللعبة بشكل جذري – وهو ما يحدث فعليًا.
الولايات المتحدة وأوروبا مضطرتان للتخلص من عبء إسرائيل. وإن لم تفعلا ذلك في القرن الحادي والعشرين، فستكونا قد ارتكبتا انتحارًا سياسيًا. لأن إسرائيل، في ظل حكم اليمين المتطرف، تحولت إلى أداة فوضى تهدد حتى حلفاءها.
إذا استمرّت النخب السياسية الغربية في عنادها، فإنها ستفقد بسرعة سلطتها السياسية بالكامل. في أوروبا تحديدًا، بدأت الجماهير بالفعل في مساءلة هذا النهج. هذه الأنظمة لن تتحمّل تداعيات فقدان السيطرة في الداخل، ولا التبعات الجيوسياسية في الخارج.
بينما تسعى أمريكا إلى كبح جماح الصين، وتواجه أوروبا تهديد روسيا، وتنشغل الكتلتان بأمنهما ومستقبلهما، فإن الاستمرار في التضحية بكل ذلك
الاستمرار في التضحية من أجل إسرائيل تجاوزٌ لا يُبرّره منطق وإذا أصرّوا على هذا المسار، فستكون نهايتهم السياسية حتمية فالعصر الجديد لا يتيح لهم تكرار مثل هذه الحسابات الكارثية.
الهيمنة الغربية التي دامت 500 عام قد انتهت فمنذ بدايات الاستعمار، ساد الغرب العالم لنحو خمسة قرون. أما اليوم، فقد انتهت هذه المرحلة.
لم يعد بإمكانهم إعادة تشكيل النظام العالمي ولا فرض العولمة من جديد. وفي مثل هذا الظرف، إن هم ضحوا بما تبقى لهم من نفوذ لأجل إسرائيل، فسيفقدون العالم بأسره.
إسرائيل هي نتاج نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونظام الحرب الباردة، ومعادلات القوة القديمة. وقد أُنشئت كدولة-ثكنة لحماية مصالح الغرب في منطقتنا، واستُخدمت كما تُستخدم الأسلحة النووية.
ومنذ ذلك الوقت، تحوّلت المنطقة كلها إلى بحر من الدماء من أجل الحفاظ على هذه القاعدة. كل الحروب والدمار نُفذت لتأمين وجودها. لكن ذلك النظام قد انتهى، ولن يعود. خريطة القوة قد تغيرت لدرجة أن أمريكا وأوروبا لم تعودا بحاجة إلى إسرائيل. لم تعُد بيدهما إدارة العالم.
ومن الآن فصاعدًا، سيُنظر إلى وجود إسرائيل والدعم المقدَّم لها على أنه خطر يهدد أمريكا وأوروبا. لسنا متأكدين متى سيدرك القادة الغربيون هذه الحقيقة، لكنهم سيواجهونها عاجلًا أم آجلًا.
ويمكننا أن نرى أن التحولات التي وقعت قبل يومين ليست بدافع إنساني أو فقط بسبب غزة، بل نتيجة هذا الإدراك العميق.
باتت إسرائيل عبئًا على الغرب. السلاح الذي طالما استخدموه قد تحوّل إلى تهديد يرتد عليهم. لا نقصد أن إسرائيل ستهاجم أمريكا أو أوروبا، بل إن مجرد الاستمرار في حمل عبئها سيُشكّل خطرًا يرتد عليهم.
وفي مثل هذه الأوقات الحرجة، لا يمكن استبعاد احتمال أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربات انتحارية أو إرهابية نحو الغرب.
وقد تدخل في أعمال جنونية تهزّ ليس فقط الغرب، بل العالم بأسره. فهي كيان يحمل هذا الجنون دائمًا.
لكن الحقيقة تبقى أن "العمر الوجودي" لإسرائيل قد انتهى. هذه هي حقيقة عصرنا. لن يكون لها مكان في خرائط القوى الجديدة، ولا في خرائط الجغرافيا السياسية. لقد بدأ انهيارها، ويجب تسريع هذا الانهيار من أجل مصلحة البشرية.
لن يبقى ما يُسمّى بـ"خطر إسرائيل" مقبولًا في الحسابات الاستراتيجية لا في الغرب ولا في الشرق، ولا في هذه الجغرافيا، ولا في تركيا.
ويمكن القول إن هذا الكيان، الذي لا يمتلك حتى الحد الأدنى من مؤهلات الدولة، سيُعامل في النهاية كتنظيم إرهابي.
نتوقع تطورات استثنائية في منطقتنا خلال العامين المقبلين. نتوقع تغييرات عكسية في الخرائط، وانسحاب قوى من المشهد، وظهور كيانات جديدة مبنية على الشراكة.
سنشهد عودة التاريخ، وانتفاضة الجغرافيا، وعودة كل طرف إلى مجاله الحيوي الطبيعي. ستُكسر كل المسلّمات الراسخة منذ قرن. وسنرى كيف ستتفكك "إسرائيل" وتنهار.
فلنوجّه أنظارنا إلى تركيا. فلنُنقّ ذهننا من تفاهات الداخل ونركّز على الحلقات الجديدة التي ستُضاف إلى تاريخ هذه الجغرافيا الممتد لألف عام.
سنرى من الذي يعيد رسم الخرائط، ومن الذي أفقده ذلك صوابه. لن تكون هناك عودة إلى الوراء في مشروع القوة الجديد الذي بلغ نقطة اللاعودة.
وذلك سيبقى واقع القرن الحادي والعشرين.
مرحبًا، تشكل التعليقات التي تشاركها على موقعنا مصدرًا قيمًا للمستخدمين الآخرين. يرجى احترام المستخدمين الآخرين والآراء المختلفة. تجنب استخدام لغة نابية أو مسيئة أو مهينة أو عنصرية.
كن أول من يترك تعليقًا.
انقر هنا لتلقي أهم الأخبار في اليوم عبر البريد الإلكتروني. اشترك هنا.
بعد إنشاء العضوية تكون قد وافقت على تلقي الإشعارات من مواقع مجموعة ألبيرق الإعلامية وعلى شروط الاستخدام وسياسة الخصوصية
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة