لقد شهدنا كيف أطلقت الثورة السورية شرارة تغييرات عميقة لم تقتصر على سوريا أو حتى الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت لتؤثر على المشهد العالمي بأكمله. ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة تطورات أوسع نطاقاً. ولكن يجب ألا ننسى أن أحد أهم العوامل التي أشعلت فتيل هذه التغيرات كان "طوفان الأقصى"، فكما تولّد رفرفة جناح فراشة رياحاً تغير مسار الأحداث، فإن طوفاناً بهذا الحجم أحدث تغييرات أشمل وأعمق. فقد دفع الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وروسيا وأوروبا ودول الخليج والنظام السوري إلى اتخاذ مواقف حاسمة، وحفز قواهم، وأرهق الخصوم، وأشعل في نفوس الأصدقاء حماساً كبيراً وأحيا روح المقاومة.
إن أبناء سوريا لم يكونوا في معزل عن المعاناة التي مر بها أبناء كتائب القسام؛ فهم كانوا، الأكثر دراية بطبيعة هذا النضال ومعاناته. ومع ذلك فإن التحولات التي طرأت على العلاقات التي كانت مستقرة نسبياً حتى الآن بين سوريا وإسرائيل وروسيا وإيران وحزب الله خلال هذا المسار، قد أوجدت فرصاً عظيمة للثورة السورية.
ولا يزال البعض يزعمون بلا خجل أن الثورة السورية قد دعمها المتآمرون المعتادون بسبب هذه الثغرات. أليس الهجوم الذي شنه الكيان الإسرائيلي الصهيوني على الأراضي السورية مع سقوط الأسد وسط حالة من الذعر، كافياً لإيقاظهم وعودتهم إلى رشدهم؟
لطالما كان نظام البعث هو الحكومة المفضلة لإسرائيل منذ البداية. فلم يكن لدى إسرائيل وأمريكا أي سبب للتخلي عن الأسد. ولم يكن لديه حتى القدرة على إثارة أي ضجيج يمكن أن يهدد أمن إسرائيل. لقد كان نظامًا عميلًا مثاليًا تمامًا كما أرادته الولايات المتحدة وإسرائيل. بل إنه كان على استعداد لبيع كل المعلومات اللازمة إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، حتى في علاقته مع إيران.
هل تعتقدون أن كل العمليات ضد حزب الله كانت تعتمد فقط على مهارات الموساد الاستخباراتية؟ أليس من المفترض بمن لديهم أدنى شك أن يدركوا أن أول ما فعله الكيان الصهيوني فور سقوط نظام الأسد في دمشق هو قصف مقر المخابرات السورية؟ فما هي الأسرار التي كانت تخفيها هذه المخابرات والتي كانت إسرائيل تخشى انكشافها؟"
وبينما كان الأسد يهرب إلى روسيا مستحوذًا على مليارات الدولارات المنهوبة من الشعب السوري، قدّم آخر خدماته لإسرائيل في إطار العمالة، وذلك بتسليم الأسلحة في منطقة عازلة على أطراف الجولان إلى إسرائيل. أليس هذا الدخول الذي جاء بهدف منع وقوع الأسلحة في أيدي المعارضة، دليلاً على أن تلك المنطقة كانت دائمًا بمنأى عن أي خطر بالنسبة لإسرائيل؟ وفيما بعد، استهدفت إسرائيل مواقع تشمل بعض الأسلحة الثقيلة ومراكز إنتاج المواد الكيميائية في طرطوس واللاذقية، التي كانت بيد نظام البعث المتعاون مع إيران. لكن لماذا لم تخشَ إسرائيل استخدام هذه الأسلحة ضدها طيلة تلك المدة، ولماذا سارعت إلى تدميرها في لحظة الذعر هذه، بمجرد أن باتت في متناول أيدي المعارضة؟ الحقيقة أنه لم يكن هناك أي عداوة حقيقية بين نظام البعث وإسرائيل، وسقوط الأسد لم يكن مدعاة للفرح لدى إسرائيل، التي ارتكبت جرائم إبادة جماعية بحق أهل غزة، بل بالعكس، شكّل ذلك مصدر قلق كبير لها.
أما من يحاول تصوير الأسد كمدافع عن القضية الفلسطينية، فإن أبطال كتائب القسام، الذين عانوا في سجن صيدنايا الذي شهد أبشع الجرائم ضد الإنسانية، قدموا الرد الواضح على هذه المزاعم. هؤلاء الأبطال، الذين واجهوا أبشع صنوف التعذيب، لم يكن لهم استثناء في المعاملة اللاإنسانية التي مارسها النظام. وفي حين أن براميل النظام المتفجرة والطائرات الحربية الروسية والمليشيات الإيرانية والشبيحة حصدت أرواح الآلاف بوحشية، فإن الجرائم المرتكبة في سجون النظام، وعلى رأسها صيدنايا، تجعل هذه الفظائع تبدو صغيرة بالمقارنة بها.
إن التغيير الذي حدث في سوريا، وبُعده الثوري، بدأ يظهر تأثيره على توازن القوى الجديد بشكلٍ واضح. وكما أشرنا سابقاً، فإن هذه التغيرات أدت إلى تغيير كامل في المشاريع المتعلقة بالبلاد والمنطقة بأسرها في غضون 12 يوماً فقط. فقد كانت فكرة وحدة الأراضي السورية تُعتبر مستحيلة، لكنها باتت اليوم تتجه نحو التحقق. وقد أعلنت الولايات المتحدة أنها ستواصل العمل في سوريا، لكنها أدركت أنها لا تستطيع الاعتماد فقط على تنظيم "بي كي كي" الإرهابي الذي زودته بالسلاح، إذ ستكشف التحركات الشعبية على الأرض، المستمدة من روح الثورة، عن مدى تأثير هذه التغيرات في المستقبل القريب. فحتى التحذيرات التي أُصدرت ضد منبج فقدت قيمتها على الأرض، كما أن التحركات القوية للعشائر في دير الزور ستُظهر بوضوح بداية المرحلة الجديدة. من الآن فصاعداً، لن يكون لأي مشروع أو جهة أي فرصة للبقاء في سوريا ضد إرادة شعبها الذي يسيطر على الوضع.
إن المشاهد التي ظهرت من سجن صيدنايا يضع الولايات المتحدة أمام سؤال إنساني محرج: كيف يمكنها أن تكون مشغولًة بخلق مساحات جديدة مع التنظيمات الإرهابية تحت عنوان محاربة داعش، بينما تُرتكب كل هذه الجرائم غير الإنسانية؟. فهل يمكن لـ"داعش" الذي أنتجته الولايات المتحدة أن يشكل تهديدًا أكبر من الجحيم الذي خلقه الأسد؟ وما هي القيم الإنسانية التي حققتها حربها ضد "داعش" كتنظيم إرهابي؟ ومن كانت تحمي ضد من؟
كان تنظيم "داعش" مشكلة وهمية، لكن الجرائم التي ارتكبها الأسد كانت حقيقية، كان الدم ينزف، والدخان يتصاعد، والأنفاس تختنق، والإنسانية تُقتل، ولم تكن هذه الحقيقة سراً حتى على الناس العاديين. لو كانت الولايات المتحدة، التي تتواجد في سوريا بكل قوتها منذ أكثر من عشر سنوات، تحمل أي قيمة حقيقية في مكافحة الإرهاب أو الجرائم ضد الإنسانية، لما ظلت صامتة تجاه ما حدث، لكنها لم تبالي. والآن كيف ستبرر وجودها في الحسكة والرقة باسم مكافحة الإرهاب؟ والأسوأ من ذلك بالنسبة لهم، هو أن أبناء سوريا الحقيقيين قد استعادوا زمام الأمور ولا يريدونها هناك، وسيكون عليها أن تأخذ معها تنظيم "بي كي كي" الإرهابي وتغادر.
إن الوضع في سوريا يتطلب من الجميع إعادة النظر في حساباتهم. فقد أصبحت سوريا الآن لاعبًا مهمًا في المعادلة، يغير الأجواء ويؤثر فيها، ووجود هذا اللاعب يفتح مجالًا مهمًّا لتركيا. تذكروا أنه قبل 12 يومًا فقط، كانت تركيا تواجه صعوبات كبيرة في مسائل الإرهاب، وقضية الهجرة، وتأثيرها في الشرق الأوسط، ولكن الثورة قلبت هذه الموازين لصالح أصحاب الحق، سواء في سوريا أو تركيا. إذا لم يكن هذا هو تدخل القدر الذي يغير كل الحسابات، فما هو إذن؟
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة