بعد سنوات من الركود النسبي في المشهد السوري، شهدت الأيام الماضية تصعيدًا جديدًا مع انطلاق العمليات العسكرية التي بدأتها الفصائل المعارضة من ريف حلب باتجاه مركز المدينة. ولا شك أن الاكتفاء بوصف هذه التطورات بأنها مجرد انطلاقة لعمليات جديدة من قبل المعارضة، ومحاولة فهم ما يجري من هذا المنطلق فقط، قد يؤدي إلى تقديم تصور مضلل يضفي شيئًا من البراءة على النظام، ويغفل عن السياق الأوسع للأحداث التي شهدتها سوريا حتى الآن. تمامًا كما أن العدوان الإسرائيلي على غزة لم يبدأ في 7 أكتوبر ردًا على عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها كتائب القسام، بل كان "طوفان الأقصى" خطوة ضمن صراع طويل يخوضه الفلسطينيون في وجه الاحتلال لاستعادة حريتهم، وعليه فإن طوفان الأقصى لم يكن السبب بل نتيجة.
وبالمثل، فإن التحركات الأخيرة التي تقوم بها قوات الجيش السوري الحر، وهيئة تحرير الشام، وسائر الفصائل المعارضة مجتمعة في سوريا، ليست سببًا لما سيحدث من تطورات لاحقة، بل هي تعبير عن الغضب المتراكم نتيجة الظلم الذي تعرضوا له على مدى السنوات الماضية. إنها ليست بداية للأحداث، بل ناتجة عنها.
إن الشعب السوري المحاصر في شمال البلاد ما زال يملك أراضي وممتلكات في حلب، وحمص، وحماة، أُجبر على التخلي عنها، إضافة إلى أقارب مفقودين في سجون النظام لا يُعرف عنهم شيء. كما أن الاتفاقيات المؤقتة التي أُبرمت خلال اجتماعات سوتشي أو أستانا بين تركيا وروسيا وإيران بعد سنوات من الصراع لم تكن تُقدّم أي وعود بتحسين أوضاع السوريين أو استعادة حقوقهم المسلوبة. بل على العكس، كانت الأراضي المصادرة في حلب، على وجه الخصوص، تخضع لعمليات تغيير ديموغرافي منظمة من قبل إيران، حيث قامت بجلب مجموعات شيعية من داخل إيران وآسيا الوسطى وتوطينها في تلك المناطق، مما جعل الاحتلال أمرًا واقعًا. في المقابل، استمر النظام في انتهاك الاتفاقيات المؤقتة التي تم التوصل إليها في سوتشي، حيث شنّ هجمات متكررة على مناطق سيطرة المعارضة، محاولاً فرض أوضاع جديدة في هذه المناطق.
وفي الآونة الأخيرة، ترددت أنباء عن عفو أعلن عنه بشار الأسد، ولكن لم يكن هناك أي تأكيد حول محتواه أو حقيقته من أي مصدر رسمي أو من الأسد نفسه. وظل مجرد أقوال لا تحمل أي ضمانات حقيقية. ولم تكن هذه الادعاءات إلا وقودًا لبعض الممارسات العنصرية في تركيا، حيث استخدمها بعض العنصريين كذرائع جديدة لمهاجمة السوريين. فلم يسبق لأي سوري أن وثق بوعود الأسد وعاد إلى بلده ليعيش بأمان دون أن يُعتقل أو يُقتل مباشرة.
في ظل العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة ولبنان قام الرئيس أردوغان بخطوة جريئة وصعبة للغاية من خلال تقييم جميع الاحتمالات وتقديم ما يُعتبر بمثابة غصن الزيتون إلى الأسد، وهو ما لم يكن يستحقه على الإطلاق. إلا أن رد الأسد المتعجرف أظهر بوضوح أنه ليس له أي مكان في أي خطوة إيجابية من شأنها أن تفيد الشعب السوري أو شعوب المنطقة. كان من الممكن أن يرى الأسد في ذلك فرصة تاريخية له، إلا أنه لم يحاول استغلالها والاستفادة منها رغم أنه في الأساس غير جدير بها بأي حال. والأعجب من ذلك هو أنه لم يعد يملك أي قوة أو قيمة استراتيجية سوى قدرته على ارتكاب المجازر وتعذيب المحتجزين في سجونه حتى الموت.
في الحقيقة، ومع كونه مسؤولاً عن دماء مليون شخص من شعبه، فإن الأسد لا يملك القدرة على إيجاد حالة من الاستقرار في سوريا أو اتخاذ أي مبادرة من شأنها أن تحقق الأمان والأمان. بل على العكس من ذلك، من المؤكد أن الأسد سيواصل ارتكاب المزيد من الجرائم في أول فرصة سانحة إذا شعر أنه سيحقق منها مكاسب.
ولذلك لم يكن من المستغرب أن تُثير أخبار إعادة بناء العلاقات مع الأسد قلق وخوف الشعب السوري بدلاً من أن تكون بشارة له. فالشعب السوري ما زال يعاني من الأسد ونظامه.
ومن جهة أخرى فإن ما يقارب نصف عدد السوريين الموجودين في تركيا، والذي يبلغ ثلاثة ملايين ونصف، هم من مدينة حلب. وسبق أن أشرنا في مقال سابق بعنوان " طريق حل الأزمة في سوريا يمر عبر حلب"، 18 يناير 2023، إلى أن أي حل لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم يتطلب بالضرورة خروج حلب من سيطرة الأسد.
وبالطبع لا يشترط أن تكون هذه السيطرة بيد تركيا، بل يكفي أن تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وذلك لضمان سلامة السوريين الراغبين في العودة إلى بلدهم. وبمجرد أن يتحقق ذلك، فإن السوريين، وخاصة من جاءوا من حلب، سيسعون بالتأكيد لاستعادة ممتلكاتهم وحقوقهم، والدفاع عن أرضهم ضد أي محاولات تسليم أراضيهم إلى عناصر ديموغرافية مستوردة من الخارج.
باختصار، يكمن الحل الواقعي الوحيد لعودة السوريين إلى ديارهم، الذي طالما كان موضوعًا متداولًا في تركيا لسنوات، في ضمان أن تصبح حلب آمنة لشعبها، خاصة في مواجهة تهديدات النظام وعناصر إيران وروسيا. وإذا لم يكن ذلك ممكنًا من خلال تركيا، فقد كان باستطاعة الأمم المتحدة أن تحقق ذلك، ولكن في غياب كل منهما، بدأت المجموعات المسلحة السورية بالتحرك، باسم الشعب السوري لتحقيق هذا الهدف.
إن دخول حلب تحت سيطرة الشعب السوري سيكون بلا شك تطورا بالغ الأهمية في المعادلة السورية. وإذا أمكن تحقيق ذلك فسيتمكن جزء كبير من السوريين في تركيا من العودة إلى بلدهم دون التعرض لأي ضغوط. كما يمكن تشجيع السوريين على العودة إلى ديارهم للدفاع عن أرضهم في وجه العمليات الديموغرافية التي تم تنفيذها في المدينة على مدار الـ11 عاماً الماضية.
رحيل براق آلباي
إنا لله وإنا إليه راجعون. متى وكيف، وقبل أو بعد ماذا سنموت؟ لا نعرف، فالأمر بيد الله، والوجود والزمان من خلقه. ننعي ببالغ الحزن والأسى أخانا العزيز براق آلباي، أحد الزملاء المميزين في مجلة "تذكرة"، وأستاذ قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة ماردين أرتوكلو، لقد لبَّى نداء ربه في سن مبكرة. نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
اسم BIST محمي مع الشعار وفق شهادة ماركة محمية، لا يجوز الاستخدام دون إذن، ولا يجوز الاقتباس ولا التحوير، كل المعلومات الواردة تحت شعارBIST محفوظة باسم BIST ، لا يجو إعادة النشر. بيانات السوق توفرها شركة iDealdata Finans Teknolojiler A.Ş. بيانات أسهم BİST تتأخر 15 دقيقة